القلق من ترمب وخططه...

نبض البلد - إبراهيم أبو حويله...

بدايةً، عشنا جميعًا سيناريوهات مرعبة منذ بدأ العدوان على غزة ولغاية الآن. فمن جهة، كنت تسمع دائمًا أن هناك اتفاقًا بشكلٍ ما، وهناك ترحيل، وهناك مخيمات جاهزة على الجانب المصري والجانب الأردني، وأن هذه المخيمات الهدف منها هو مؤامرة كونية تهدف إلى تفريغ غزة وبعد ذلك تفريغ الضفة من أهلها وشرق أوسط جديد. وخرجت علينا الدبلوماسية في البلدين ترفض فكرة التهجير وترفض كل السيناريوهات المتعلقة بها. ولكن البعض ما زال يؤمن بأن الأرض مسطحة، حتى في مجلس الشيوخ الأمريكي ما زال بعضهم يؤمن بالمؤامرة الكونية، وظنوا بأن أوباما هو الشخص الذي تم إرساله للقضاء على الولايات المتحدة. وهؤلاء موجودون في كل مكان، ولو رفعت الحجر في فناء بيتك ستجد واحدًا منهم هناك.

وجاءنا ترمب بكل ما يحمل من عنجهية وفوقية وقدرة على التصرف بلا حدود كما يزعم، فزاد خوفنا وهلعنا. وبدأنا بطرح الحلول له والتفكير عنه بالسيناريوهات المقبولة من قبله، وبدأنا نعيش الكابوس على أنه حقيقة لا مفر منها. والرجل سينفذ كل تهديداته، بل هو ماضٍ إلى أبعد وأكبر من ذلك. ولكن مهلاً، ولنُعطِ الأمر قليلاً من التفكير.

هل هذه الفئة التي قاتلت أعتى قوى الأرض لمدة خمسة عشر شهرًا، وصبرت على الجوع والتهجير المتكرر من مكان إلى آخر، سترضى بأن تُنفذ لترمب مخططاته بهذا اليسر وهذه السهولة؟ وهي التي قدمت حوالي خمسين ألف شهيد، وثلة من خيرة قياداتها، وكانت صابرة محتسبة وماتت في ميادين القتال. هل تتوقع من هؤلاء الذين صبروا في شمال غزة، بعد أن نال منهم الجوع والتعب والضنك، وخسروا الغالي والنفيس، ومات العزيز والابن والزوج والزوجة والأب، هل تتوقع من هؤلاء أن ينصاعوا لطلب المغادرة لحين الانتهاء من تطهير الأرض وإعادة بنائها؟

إلى متى سنظل نلدغ من نفس الجحر مرارًا وتكرارًا؟ افعلوا ما شئتم، هؤلاء لن يغادروا. الذي رفض العروض المجزية والمبالغ الضخمة في البداية وكانت كل عائلته حوله، هل سيقبل بالمغادرة الآن، وهو يرى كيف صمدت المقاومة أمام هذه الآلة الجبارة التي كانت تقصف كل شيء ليل نهار ولمدة عام ونصف؟ من صمد في ميدان المعركة رغم كل هذه الخسائر والأهوال، هل تتوقع منه أن يكون بهذه السذاجة، ويخرج من بيته حتى يتم تطهيره؟ وهل بقي شيء حتى يتم تطهيره؟

ومع ذلك، يعود هذا إلى قطعة الأرض المهدمة التي قُصفت مرارًا وتكرارًا، ويضع بضع خشبات عليها ويبني خيمته، ويخرج من تحت الركام دفتر ذكرياته، ويسعى لأن يكون الغد أجمل. هذا الذي كان يتزوج تحت القصف والقتل والدمار حتى يُنجب ابنًا يحمل عقيدة وسلاحًا، وكانت المواليد في غزة خلال الحرب قد تجاوزت الخمسة وثمانين ألفًا، هل تتوقع منه أن يغادر لأن العم سام طلب منه المغادرة؟ أو لأن سموتيرتش والنتن سيضع يده في يد ترمب ويطلبون منه المغادرة؟

نعم، يملك ترمب عقلية المحافظين الجدد، ويرفض مبدأ التفاوض، ويسعى لاستخدام القوة لفرض ما يريد، وهو الذي أجبر النتن ياهو على التوقيع على الهدنة يوم السبت. وهو الذي يسعى لفرض رأيه وتصوره على العالم.

ولكن هناك من سيقول لا. وليست أول "لاءات" ترمب هي الحرب الأوكرانية، فهو وعد بإنهائها من أول يوم، ولن تكون آخر "لاءات" ترمب غزة والضفة. وما زال الموقف الأردني عالقًا في ذهنه من الفترة الرئاسية الأولى. ولن تنصاع الدبلوماسية الأردنية لما فيه مساس بحقوق الشعب الفلسطيني ولا حقوق المواطن الأردني. والقضية، كما نعلم جميعًا، ليست قضية حسن جوار أو ضيافة أو لجوء. وهذا ما يعلمه المواطن الفلسطيني تمامًا، ولذلك دفع الثمن من دمه، ولم يغادر أرضه. فهل تظن أنه سيغادرها الآن؟

فليرحم البعض عقله، وليُتعب نفسه فيما يعود عليه بالفائدة. فنحن صرفنا شهورًا طويلة ونحن نُحلل ونرسم ونضع السيناريوهات والحلول لغزة.

وغزة فرضت حلولها، ولم تنصع لأوهامنا ولا لأفكارنا. وكان قادتها وما زالوا يقاتلون لآخر نفس ونفيس، ويُضحون بكل شيء في سبيل حرية، حتى لو كانت حمراء بأيدٍ مضرجة بدماء أعدائها، قبل أن تضع يدها على جرحها وتموت صابرة. تقاتل لآخر نفس. لقد صبر هؤلاء صبرًا تعجز عنه الجبال، وكانوا في ميادين المعارك جبالاً وما زالوا جبالاً.