الهوية الوطنية الأردنية: تفاعل تاريخي وصمود مستمر

نبض البلد -

أحمد الضرابعة

 

تتشكل الهوية الوطنية لدى أي شعب نتيجة تراكم العديد من العوامل، التاريخية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، والتي تتداخل فيما بينها لتنتج كيانًا سياسيًا يُعبِّر عن تاريخ الشعب، وقيمه وتطلعاته، ولكل دولة من الدول الحديثة سردية تأسيسية خاصة بها، تُوضّح جذور نشأتها ومدى استيعابها لهوية شعبها والتعبير عنها في أُطرها المؤسسية وهيكلها الدولاني، وتُعد الأردن نموذجًا يُحتذى به في هذا الصدد، حيث إن الحضور التاريخي لشعبها لم ينقطع في مختلف العهود السياسية التي مرّ بها، وظلّ محافظًا على هويته الخاصة إلى أن زال الحكم العثماني، والذي أنهى بزواله عصر الإمبراطوريات التي احتجزت تحت راياتها حق تقرير مصير قوميات عديدة، ليبدأ بعده عصر "الدولة الوطنية" الذي كان العرب آخر الأمم اندماجًا فيه. ووفقًا لرؤية المنتصرين في الحرب العالمية الأولى، تمت إعادة صوغ الجغرافيا السياسية للمشرق العربي، حيث إن التوازنات الدولية التي سادت في ذلك الوقت، فرضت نفسها على كافة أقاليم العالم، أبرزها الشرق الأوسط الذي يضم المشرق العربي والذي تُعد الأردن جزء منه، والتي كثرت الادعاءات والمغالطات بشأن تاريخها والرواية المُنشئة لهويتها الوطنية، وهذا ما نحاول الرد عليه.

 

على خلاف العديد من الدول التي تشكّلت هويات شعوبها الوطنية بعد تأسيسها، بسبب غياب العمق التاريخي الذي يُمكّنها من الوعي بذاتها وإثبات وجودها في النظام الدولي، والتي سمح الاستعمار بنموها لخدمة مصالحه الجيو استراتيجية، بعد أن كانت جزءً لا يتجزأ من كيان أكبر، ولم تتمتع يومًا بالاستقلالية في إدارة شؤونها الذاتية، تبلورت الهوية الوطنية الأردنية بشكلها النهائي قبل قيام الدولة الأردنية؛ إذ أكدت الحضارات المتعاقبة التي نشأت على أرضها وجود كتلة ديموغرافية أردنية ذات عمق سياسي وتاريخي، تُظهر نزعة استقلالية، ومن الصعب ضمها أو إلحاقها بما هو أكبر منها، وقد أسهمت الروابط التاريخية المتينة بين الكيانات الاجتماعية التي حكمت الجغرافيا الأردنية في مرحلة ما قبل الدولة في ترسيخ جذور الهوية الوطنية الأردنية وإثبات وجودها، رغم نظرات الفوقية والاستعلاء التي تُوجّه إليها، والرغبة الملحوظة في نفي ما يُمكن تسميته بـ "الخصوصية الأردنية". وهناك ثلاث مناسبات مهمة، عبرت عن وجود إطار هويّاتي مرجعي للأردنيين، وأبرزت، التعابير الوطنية الدالة على وجود كتلة ديموغرافية فاعلة، ومتفاعلة مع الأخطار التي تتعرض لها ومصالحها، وأنها ليست مجرد حمولة بشرية عاجزة تنتظر شفقة الآخرين أو قدرها كما يحاول البعض أن يصوّرها. أول تلك المناسبات يرتبط بالثورات المحلية المتواصلة ضد الحكم التركي حتى إسقاطه، وتضامن العشائر والقبائل الأردنية مع بعضها في مواجهة سياساته الجائرة. وثانيها، الاندماج الكلي للأردنيين في الثورة العربية الكبرى عام 1916 بسبب معاناتهم من السياسات التركية. وثالثها، انعقاد مؤتمرعام 1920، والذي أبرز الوعي السياسي الأردني المبكر، وهذا يقودنا للاستنتاج أن الشعب الأردني تفاعل بحيوية جماعية مع الأخطار والتحديات المختلفة التي تعرض لها، بفضل الشعور المشترك بين أبنائه، والذي نشأ عبر تاريخه الطويل، رغم محاولات الأتراك العبث في الميزان الديموغرافي الأردني بتشجيع غير العرب على الهجرة إلى الأردن، وتسهيل استيطانهم في أراضيه

 

بعد تأسيس الدولة الأردنية، شارك الأردنيون بفعالية في بناء جيشهم العربي، ليصبح هو الركيزة الأساسية لهويتهم الوطنية وعنوانًا واضحًا لها، وهذا يُفسّر الشعبية الكبيرة التي تحظى بها القوات المسلحة في بلدنا. وقد قاومت الهوية الوطنية الأردنية على مدار أكثر من قرن، كل الظروف التي أُريد لها أن تنصهر فيها أو يُعاد تعريفها بما يتماشى مع الوقائع الديموغرافية التي فُرضت في الأردن الذي تطمح إسرائيل لتحويله إلى وطن بديل للفلسطينيين الذين تحتل أراضيهم، وهو المشروع الذي تتبنى مقتضياته تيارات سياسية مكشوفة، وتقدّمها في إطار يبدو أبسط مما هو عليه في الحقيقة. إن أي دعوة للنقاش بشأن الهوية الوطنية الأردنية، يجب أن تتضمن الاتفاق على رفض تعديلها أو تغيير مسماها بما يتوافق والأطماع الإسرائيلية الواضحة، والتأكيد على رفض أي رغبة مسبقة بإدماج مكونات اجتماعية محددة في إطارها، وكذلك يجب أن تنص على استبعاد الأطراف المشبوهة من الجلوس على طاولة الحوار الوطني بشأنها، والذين فُضحت محاولاتهم بالاستقواء بنفوذ السفارات والدول الأجنبية على الدولة الأردنية، لتمرير تعديلات جوهرية تُسهّل فرص نجاح المشاريع التي يرتبطون بها في الأردن.

 

قد يوضع الملف الفلسطيني في المرحلة المقبلة على طاولة التسويات الدولية، والتي ستتم وفقًا للرؤية الإسرائيلية والأميركية، وهذا يتطلب إصرارًا أردنيًا على مقاومة أي حلول على حسابه، وهو يملك مساحته الخاصة لرفض أي توجه دولي يتجاهل مصالحه الحيوية، وسبق له أن أثبت ذلك، وهذا يتطلب تحصين الجبهة الداخلية، وحماية الهوية الوطنية الأردنية من كل محاولات العبث فيها، سواء أكانت إسرائيلية، أو سياسية محلية.

 

أخيرًا، إن الهوية الوطنية الأردنية، ليست مجرد أداة تقود لتحصيل مكاسب سياسية، أو رقم وطني، أو جواز سفر لفئة ما، وإنما هي ارتباطٌ روحيٌّ فطريٌّ بالأرض والدولة، التي نمت وتطورت عبر جهود الأجيال السابقة، وهي التي يجب الحفاظ عليها، لإدامة بقاء الدولة، وعدم تهديدها.