إيران: رحلة النفوذ الإقليمي الأكبر

نبض البلد -

أحمد الضرابعة

"كل دولة يجب أن تُقبل كما هي، ولا نحتاج إلى تغيير أي نظام، وستكون كل دولة عضوًا كاملاً، لكن الدولة الكبرى لها قول كبير"

جاءت هذه المقولة على لسان رئيس البرلمان الإيراني الأسبق، علي لاريجاني، في معرض حديثه عن الحاجة إلى ترتيبات للأمن الجماعي في الخليج، بعد انتهاء الحرب العراقية - الإيرانية عام 1988، وفي الحقيقة هي ليست مقولة عادية، بل تفكيك لشيفرة إيران الحديثة التي تعبِّر في سلوكها الإقليمي عن امتداد لماضٍ إمبراطوري فارسي، كان العرب خلاله في حالة خضوع للإمبراطورية الفارسية البائدة، التي تحاول وريثتها إيران إحيائها اليوم، ضمن قالب سياسي عصري، تستثمر في إطاره بهوية تمزج بين القومية والدينية.

تُعدُّ إيران من أبرز الدول الفاعلة في منطقة الشرق الأوسط، وأكثرها تأثيرًا في السياسة الإقليمية، ومن شرطي المنطقة إلى تصدير الثورة، انتقلت إيران من حماية المصالح الغربية إلى قيادة الشيعية السياسية، والحال أنها حافظت على حضور مُتصاعد في المنطقة العربية، التي ظلَّت ساحة عمل للحسابات الإيرانية، إن كان في عهد ملكية الشاه، أو جمهورية الخميني الإسلامية التي يهدف نظامها الثيوقراطي إلى التأسيس لمركزية مذهبية في العالم العربي والإسلامي، لاستقطاب ولاء الشيعة المذهبي من خارج حدود إيران، لكن هذا المسعى لم يكن بدافع ديني فقط، بل أيضًا سياسي، يراد منه جعل إيران قبلة سياسية لدى الطوائف الشيعية في الخارج، بإقناع هذه الطوائف، بأن الانتماء المذهبي لإيران يساهم في حمايتها من أي ظلم تتعرَّض له داخل بلدانها. ومهَّد ذلك التكتيك إلى توجيه المجتمعات الشيعية في الدول العربية نحو طهران، وتحويل تلك المجتمعات إلى قوى سياسية مُنافسة. وقد أدى استثمار إيران السياسي في العامل الطائفي إلى تأجيج الخلافات السنّية - الشيعية، بما أدى لانعدام الاستقرار السياسي في عدة دول عربية، وساهم تدخل إيران على الأساس الطائفي إلى تغيير قواعد اللعبة السياسية في العراق ولبنان، إذ برزت مفاهيم سياسية جديدة للتعبير عن ذلك، كالبيت الشيعي في الحالة العراقية، والطائفية السياسية، أو الرئاسات الثلاث في الحالة اللبنانية، وقد أسهمت إيران في بروز هذه المفاهيم المعبّرة عن الفوضى السياسية الناجمة عن تحكّمها بالقرار السياسي في هذه الدول.

ولم يكن التدخل على أساس طائفي بوابة إيران الوحيدة لمد النفوذ في العالم العربي، فقد أدى استغناء الدول العربية عن دعم خيار المقاومة، وذهابها للتفاوض مع إسرائيل للوصول إلى حل سياسي للقضية الفلسطينية، بالإضافة لغياب المشروع العربي الذي يستوعب الحركات الفلسطينية المسلّحة لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي؛ إلى إغراء بعض من هذه الحركات للالتحاق بمحور المقاومة الذي تتزعّمه إيران، كحماس والجهاد الإسلامي، اللتين تمدّهما بالدعم العسكري لمواصلة دورهما في ردع خصمها الإقليمي، إسرائيل، وهو ما أدى في نهاية الأمر إلى منح إيران مساحة جديدة من النفوذ في العالم العربي.

وعندما اندلعت شرارة "الربيع العربي" في سورية، استثمرت إيران حالة الضعف التي مرَّ بها نظام الأسد، وحاجته إلى حليف قوي لإحباط الثورة، ودَفع تنازل الأسد عن أمن بلاده الوطني مقابل الحفاظ على أمن نظامه لإغراء إيران لمساعدته، فساهمت إلى جانب روسيا في إحباط الثورة السورية، وتثبيت نظام الأسد، وعملت إيران بعد ذلك، على تأسيس كيانات طائفية مسلّحة تابعة لها على مقربة من حدود إسرائيل، لتتحول سورية إلى مسرح للمواجهات الإيرانية - الإسرائيلية.

من الضروري الإشارة هنا إلى أن موقف إيران من الأزمة السورية، يتعارض مع مبادئ الثورة الإسلامية التي قام عليها النظام السياسي في إيران، حيث ينص الدستور الإيراني على أن الثورة الإسلامية تهدف لنصرة المستضعفين والمضطهدين في العالم على المستكبرين، لكن الموقف الإيراني من الأزمة السورية، أظهر أن إيران دولة انتهازية تقتنص الفرص لتقوية حضورها الإقليمي، وإن مبادئ الثورة الدستورية لا قيمة لها إن كانت تُشكِّل عائقًا أمام الطموح الإيراني لمد النفوذ في أي قُطر عربي.
إن الواقع السياسي العربي في العقدين الأخيرين، وفَّر لإيران فرصة الإنتشار المُتسارع في الإقليم، بدءًا من الفراغ الإستراتيجي الذي نشأ عن إضعاف العراق، وتدمير قدراته العسكرية، وتقزيمه ليصبح دولة ضعيفة بعد أن كان قوة إقليمية تصدّ أطماع إيران بالتسلل إلى المنطقة العربية، كما أن حالة التفكك العربي، وتناقض السياسات والمصالح الوطنية، أسباب حالت دون قيام سياسية عربية خارجية موحدة، تؤدي في طريقها إلى بلورة مفهوم محدد للأمن القومي، ويُترجم إلى ممارسة عربية مشتركة تحدُّ من تغلغل النفوذ الإيراني الذي بدأ ينحسر تدريجيًا، وبالتالي فإن الحاجة ملحة لبلورة مشروع عربي يملأ الفراغ الذي استأثرت به إيران، خصوصًا أن المملكة العربية السعودية بحكم أنها من الدول الإقليمية الصاعدة، مرشحة لقيادة هذا المشروع وعدم تكرار الخطأ الاستراتيجي الذي ارتُكب بعد سقوط النظام العراقي عام 2003، في سورية بعد أن سقط حكم الأسد.