دروس ما بعد سوريا

نبض البلد -
بهدوء
عمر كلاب
الثورات، بحكم التعريف، تسير في واحد من ثلاثة مسارات: إما استبدال أشخاص بأشخاص (مثل حالة اليمن)، أو نظام بنظام (مثل حالة مصر وتونس)، أو بنية الدولة ببنية دولة جديدة (مثل حالة سوريا لو انقسمت البلاد). ولكن أسوأ ما في بنية الدولة العربية أنه حتى تغيير الأشخاص أو إحلال نظام مكان نظام تكون له انعكاسات مباشرة على بنية الدولة. هذه التركيبة من المجتمعات العربية، باستثناءات قليلة، تجعل حرية المواطن وحقوقه في تضاد مع استقلال الوطن ووحدته.
ومما يزيد الأمر تعقيدًا أن نخب ما بعد الربيع العربي لم تصل إلى درجة التفاهم التي كانت حاضرة نسبيًا في مرحلة ما قبل الربيع العربي. قبل الربيع العربي كانت النخب متفقة على عدة قيم، وعلى رأسها قمع الحركات الانفصالية والتعسف في استخدام السلطة خشية التعسف في استخدام الحرية ورفض الديمقراطية، وعداء القوى المحافظة دينيًا.
ومع الربيع العربي، سال الصلب وتفتت الجامد بكل ما فيه من عيوب، ولكن هذا ليس ضمانًا لأن يكون المقبل بالضرورة أفضل، إلا إذا نجحنا في خلق ثلاث حقائق على الأرض: أولاً، أن تكون عملية بناء الدولة قائمة في الأصل على مصالحات وطنية جادة تأخذ في الاعتبار أن فساد ما قبل الثورات كان درجات وأنواع، وليس من أراد الإصلاح فأخطأه كمن أراد الإفساد فأصابه.
ثانيًا، أن تُجدد دول المنطقة تعهدها بألا تتدخل في الشؤون الداخلية للدول التي لم يصبها هذا الربيع؛ فالدول التي شهدت ثورات وانتفاضات لم تقدم بالضرورة نماذج جيدة يمكن أن تحتذيها الدول والشعوب الأخرى، ولكن في المقابل، على الدول غير الديمقراطية في منطقتنا العربية أن تشرع في الاستعداد لمرحلة ستطالب فيها الشعوب بحقوقها وحرياتها، ويكون هذا الاستعداد بقرارات إصلاحية متدرجة حتى لا يصيب الجمود تسونامي الانتفاضات المقبلة.
ثالثًا، على دول الفائض الاقتصادي العربي أن تساعد الدول التي تعاني اقتصاديًا حتى لا تتحول المعاناة الشعبية إلى البيئة الحاضنة للتطرف، الذي هو عادة المقدمة المنطقية للعنف الاجتماعي والسياسي.
للثورات، كما لكل فعل جماعي بشري، نتائج مقصودة وأخرى غير مقصودة. وعلينا أن نجتهد في الحد من الآثار غير المقصودة للثورات. وأخطر ما يواجه منطقتنا من تحديات هو أن العروش كانت تستند إلى الجيوش في استدامة الاستبداد، والثورة ضد العروش اقتضت الثورة ضد الجيوش في الكثير من دول منطقتنا، والجيش ليس مجرد جنود يحملون أسلحة، وإنما جوهره هو «الجندية» التي تخلق ضمن ما تخلق الولاء للدولة وليس للقبيلة أو العرق أو الدين، كما في الحالة الأردنية والحالة المصرية نسبيًا.
وتحول بعض جيوش المنطقة إلى ميليشيات متقاتلة وضعف تماسكها الداخلي وتراجع صورتها الذهنية كمؤسسة وطنية يعني ضمنًا أن صلابة المؤسسة، ومعها صلابة الدولة التي تحويها وتحميها، أصبحت موضع شك. أزعم أن منطقتنا تعيش اليوم ما عاشته دول غرب ووسط أوروبا بعد الثورة الفرنسية وما نتج عنها من خريطة جديدة. كان ولا يزال الأمل أن تكون لنا قدرة أكبر على قراءة التاريخ والتعلم منه، ولكن تبدو النخبة العربية (سواء المثقفة أو السياسية)، وكأنها تعاني من مرض خطير وهو «النرجسية المعرفية»، بمعنى رفض الاستفادة من خبرات الآخرين أو الاستفادة من النظرة النقدية لتاريخنا.
انقسم العرب إلى ثلاثة أنواع: هناك دول الاستقرار المحفوف بالمخاطر مثل دول الخليج والأردن والجزائر والمغرب، وثانيًا هناك دول التحولات الراديكالية مثل مصر وتونس، وثالثًا هناك الدول الفاشلة أمنيًا مثل العراق وسوريا واليمن وليبيا والسودان والصومال ولبنان.
حالة السيولة والتفتت التي نعيشها تتطلب منا جهدًا استثنائيًا من الدول الأكثر استقرارًا لمساعدة دول التحولات الكبرى. فالارتفاع بأسوار البيت لن يمنع التصدع المقبل من دول الجوار، ومطلوب مشروع مارشال عربي ضخم لإصلاح الدولة ودحر الإرهاب وبناء علاقة سليمة بين المواطن والدولة، وهذه مهمة دول الرفاه والعقل.
Omarkallab@yahoo.com