المثقف المدني وغيابه وجبنه

نبض البلد -

عمر كلاب

منذ أحداث السابع من ديسمبر، أتابع بقلق حوارات المثقفين والنشطاء الذين ينتمون إلى المدرسة المدنية، على فضاءات التواصل الاجتماعي. وحتى لا يكون عامل الأساس ضبابيًا، فهو اليوم الذي سقط فيه نظام البعث بنسخته السورية أو الأسدية. ويبدو أن السابع كمصطلح بات حاضرًا منذ السابع من أكتوبر، الذي اختلط فيه المدني مع الديني مع القومي تحت لافتة المقاومة ودعمها، لكن السابع من ديسمبر حمل الافتراق البيني، وعاد الجميع إلى قواعده السابقة دون سلام.

ينتمي نموذج المثقف المدني بتوصيفه الإجرائي إلى مشروع المدينة، وحتى إلى مشروع الدولة بوصفها مؤسسة تمثيلية لانتظام الفاعليات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وبغياب ذلك، فإن هذا المثقف لا يعدو أن يكون إلا جزءًا من الظل الاجتماعي، ومن الهامش الوظيفي أو الحرفي، أو جزءًا تابعًا للمركزية الأيديولوجية الحاكمة – حزبية، دينية، طائفية، مهنية – أو أن يكون منخرطًا في تداولية الثقافات المحلية. ويبدو أن مثقفنا المحلي هو خليط من الظل والهامش الوظيفي أو الحرفي.

فهو مثقف غير أمين أيديولوجيًا، أعني المثقف المدني، فهو يبحث عن إرضاء للدين والطائفة والقبيلة، ويسعى جاهدًا للفوز برضى كل هذه التناقضات. لذلك فقد وقاره الأيديولوجي، وحتى الممسك بالأيديولوجيا، فقد عذريته بانحيازه الأعمى إلى نظام بعينه. فلا وازن بين الحرية واشتراطاتها، ولا قبل باشتراطات الديمقراطية، واندغم بدون وعي في المشروع الديني، وقبل بظلال التدين المذهبي على حساب منهجه الأيديولوجي. وفي الاختبار، قام الناس بسلوكهم بالانحياز إلى الحقيقي، لذلك فاز تيار التدين.

فهو على الأقل – أي تيار التدين – أصدق لفكرته من المثقف المدني، الذي حار بين فكرته ومرجعيتها النظرية، وبين حاجة الطلب في السوق الاجتماعي. وبدلاً من أن يقدم رؤيته النقدية للواقع، قام بالاصطفاف في خندق التدين، فخسر مدنيته، وتاليًا خسر موقفه وحضوره. فكيف أثق بحزب شيوعي يقبل أن يرعى أمين عام حزب إسلاموي تخريج دورة كادر لينيني مثلاً، علمًا باستحالة أن يقبل حزب إسلاموي قيام أمين عام حزب شيوعي بتخريج دورة تحفيظ للقرآن؟

مثقفنا المدني ليس مدنيًا، فهو خليط عجيب وغريب من تناقضات. فهو طائفي وقبلي وسلطوي، ويتدثر بأي رداء من هذا الثالوث إذا ضاقت عليه الدنيا. فهذا المثقف لا تاريخ له سوى التخفي والتقنع بالأدبيات الثقافية، لأن تاريخ السلطة المركزي والطارد لا يثق بوجود المثقف الخارج عن نسقه، فضلاً عن أن شخصية المثقف تعاني من رهاب جاثم في المركزيات القامعة للحزب والفقه والجماعة. وأن تمثيله المدني يعني الانخراط في فعاليات نقدية خارج هذه المركزيات، وهو لا يريد دفع هذه الأثمان بحكم جبنه أولاً، وغياب البيئة الحاضنة والداعمة شعبيًا له، نتيجة انفصامه الأيديولوجي.

المثقف المدني لا يتناقض مع فقه الدين، لكنه لا يختبئ خلف التدين والعمامة سواء كانت بيضاء أو سوداء أو قلنسوة أو غيرها. فهو يحمي حرية المعتقد، ولكن لا يقبل أن تُفرض على المجتمع. يقبل أن يدعم حركة تدين تحمل فكر المقاومة حسب مرجعيتها الفقهية، لكن على أساس منهجي قوامه: أما وقد وقع الفعل، فليدعم، لكن وجب نقده وتحديد مآلاته. لا يستحي من نقد نفسه أو نقد السلطة، وإذا لم يتخلص المثقف المدني من كل هذه الضديات فلن يكون لدينا تيار مدني أو فقه مدني، رغم وجود حواضن كثيرة لهذا الفقه في المجتمع. ومن يشكك، عليه أن يقرأ حجم الأوراق البيضاء في الانتخابات الأخيرة.