نبض البلد - أحمد الضرابعة
يمر النظام الدولي القائم في مرحلة انتقالية، تتجلى أبرز ملامحها بصعود دور الفواعل من غير الدول، وعدم احتكار الدول - بصفتها فواعل مؤسِّسة للنظام الدولي - القدرة على التأثير في العلاقات الدولية، إضافة إلى استمرار الحروب الناشبة في أقاليم مختلفة في العالم، وتفاقم الصراعات في مناطق عديدة، لا سيما منطقة الشرق الأوسط التي لم تنعم بالاستقرار منذ زمن طويل، بل تتجه نحو الفوضى بوتيرة متسارعة. ولعل السمة الأبرز للتفاعلات الإقليمية المستمرة منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 هي عودة نشاط الكيانات اللادولتية المسلحة وتصدُّرها واجهة الأحداث، فما السر وراء ذلك ؟
تُعرف الكيانات اللادولتية المسلحة بأنها هي الجهات غير الشرعية والمفتقرة للاعتراف الدولي، التي تُمارس نفوذًا وتأثيرًا سياسيًا وعسكريًا وأمنيًا، مثل الميليشيات والتنظيمات المسلحة وحركات التمرد والانفصال، والتي ينتشر الكثير منها في الشرق الأوسط عمومًا، وفي العالم العربي خصوصًا، والذي لطالما وفّر بيئة خصبة لولادتها، حيث ساهمت الثقافة السياسية - الدينية الدارجة والمشوّهة، إلى جانب ضعف الحكومات المركزية في دول عربية عديدة وتراجع الاستقرار فيها، مع عدم حسم القضايا القومية والدينية الكبرى، مثل القضية الفلسطينية والأزمة السورية بشكل عملي ونهائي، في توفير المبررات والحوافز الكافية لنمو الميليشيات والحركات المسلحة، التي تلجأ للعنف والحلول العسكرية لمعالجة القضايا التي تدّعي أنها وُجدت من أجلها، بل وحصلت على شرعية كبيرة في الشارع العربي بسبب دورها.
إذا ما أمعنّا النظر في دور معظمها، وعلاقاته مع القوى الإقليمية، نجد أنها تتلقى التمويل من الخارج، وبالتالي فإنها محكومة بعلاقة حتمية، تقوم على التبعية السياسية للممول، الذي يفرض شروطه، والتي غالبًا تؤدي لارتهان هذه الميليشات إلى مصالحه، وتحوّلها إلى وكيل لأنشطته الإقليمية، مثل إيران التي وسّعت شبكة نفوذها في أربع دول عربية، دون أن تضطر لإنشاء قاعدة عسكرية واحدة بشكل رسمي في إحدى هذه الدول، وبعيدًا عن الظروف الموضوعية التي لا تسمح لإيران بإنشاء قاعدة عسكرية خارج حدودها، فإنها لم تكن بحاجة ذلك؛ فالميليشيات التي قدّمت لها الدعم على مختلف المستويات، كانت بديلاً مثاليًا لرعاية مصالحها وتطبيق أجندتها.
تخوض هذه الميليشات والحركات المسلحة الصراع مع إسرائيل، بحسابات خالية من المنطق الدولي، الذي لا يمكن تحييده في سبيل تحويل الأمنيات الكبرى والمشروعة إلى واقع، وهو ما تم إثباته كثيرًا عبر التاريخ، فالسياسة الواقعية عندما تفرض نفسها، يكون التكيف مع مقتضياتها مخرجًا آمنًا يضمن أقل الخسائر، وهذا لا يعني الاكتفاء بالاعتراف بها، وإنما العمل على تعديلها بأدوات القوة الناعمة، مثل الدبلوماسية والتفاوض؛ لأن الخسائر أو التضحيات البشرية والمادية حين يتم تقديمها في مثل هذه الظروف، لن تكون متبوعة بأي مردود سياسي يُترجم رؤية من يقدمها لحل القضية الفلسطينية والتخلص من الإحتلال الإسرائيلي على سبيل المثال، وسبق لدول الطوق، تحت وطأة الهيجان في الشوارع العربية أن مرّت بتجربة مماثلة، وخسرت في الميدان العسكري أكثر مما كانت تتفاوض عليه عبر طاولات الدبلوماسية والسياسة.
ختامًا، تتعدد أهداف الكيانات اللادولتية المسلحة في المنطقة العربية، فمنها من يسعى لتحرير فلسطين، ومنها من يهدف لإقامة دولة إسلامية، ومنها من يملك طموحات انفصالية، ولكن ما يجمعها كلها معًا، أنها تتلقى التمويل من جهات غير وطنية، أي أنها مُستغلَّة في أحسن الأحوال، وأنها تستقوي على السلطات الحاكمة في الدول التي تنتشر فيها، بدعم أجنبي أيضًا، وأنها عندما تتولى زمام السلطة في بلد ما، سيتضح افتقارها لثقافة الدول ومنطقها، وأنها تحاول بناء شرعيتها من الخارج أولاً، لا الداخل، أي بالتسويات والتفاهمات الدولية، وليس القبول الشعبي، وعليه، فإنها عُرضة للزوال مع أي تغيير جذري في السياسات الإقليمية والدولية.