نبض البلد - محمد أحمد ممادي
صحفي من جريدة الوطن في جزر القمر
تُعد رواية "جبل التاج" للأديب الأردني مصطفى القرنة من الأعمال الأدبية المهمة التي تمزج بين التاريخ والجغرافيا لتقدّم لنا صورة عميقة ومعقدة عن التحولات الاجتماعية والسياسية التي مر بها الأردن في القرن العشرين. تبدأ الرواية في بداية القرن العشرين، حيث يصل الشركس إلى جبل التاج، وتنتهي في عام 1956، عام تعريب الجيش الأردني. تُمثل هذه الفترة الزمنية محطات فارقة في تاريخ الدولة الأردنية، وتعكس في الوقت ذاته تأثير هذه التحولات على المجتمع الأردني بعمق.
الجغرافيا: المكان كأداة سردية
تسهم الجغرافيا في "جبل التاج" بشكل رئيسي في بناء الرواية وتشكيل وعي القارئ حول الأحداث التاريخية، فالأماكن التي تذكرها الرواية ليست مجرد خلفيات مكانية للأحداث، بل هي نقاط محورية تسهم في رسم ملامح الشخصيات وتحديد مصيرها. يتمثل ذلك في الأماكن الشهيرة مثل "واد النصر"، "عين غزال"، "الأشرفية"، "وادي السير"، "الجيزة"، "محطة القصر"، "محطة خان الزبيب"، "القدس"، "صويلح"، و"الجسور العشرة". هذه المواقع هي أكثر من مجرد مناطق جغرافية في الرواية؛ هي نقاط انطلاق للتطورات السياسية والاجتماعية التي تشهدها المنطقة في تلك الحقبة. على سبيل المثال، تمثل "القدس" في الرواية رمزاً للمدن الكبرى التي شهدت تحولات كبيرة في بداية القرن العشرين، بما في ذلك فترة الانتداب البريطاني والنضال الوطني ضد الاحتلال. من خلال هذه الأماكن، ينجح الكاتب في تقديم رؤية شاملة لتاريخ الأردن وجغرافيته على مستوى دقيق ومفصل.
التاريخ: قراءة الأحداث السياسية والاجتماعية
تبدأ رواية "جبل التاج" في فترة زمنية حاسمة، وهي بداية القرن العشرين، حيث يصل الشركس إلى جبل التاج ويبدأون في زرع الحقول والاستقرار في هذه المنطقة الجغرافية. ويُعتبر هذا الحدث بداية لفصل جديد في تاريخ الأردن، حيث يدخل الشركس في تفاعل مع السكان المحليين، ويؤسسون مجتمعات جديدة. يُقدّم الكاتب من خلال هذا التناول السردي صورة حية عن حركة السكان في مناطق مختلفة من الأردن وتأثير هذا الاستقرار على بنية المجتمع.
أما الانتقال إلى فترة الحرب العالمية الأولى وما بعدها، فيكشف عن التوترات السياسية التي كانت تشهدها المنطقة في ظل الاستعمار البريطاني والعثماني. تتمركز الأحداث حول قضايا التحرر والنضال الوطني، وهو ما يتجسد في تطلعات الشخصيات التي تعيش في ظل الاحتلال. إن الاهتمام بتفاصيل السياسة في الرواية يعكس الصراع الكبير الذي كان يعيشه الأردن في تلك الفترة، بدءًا من محاولات الاستقلال مروراً بمراحل الكفاح والنضال ضد الهيمنة الأجنبية.
في هذا السياق، تنتهي الرواية عام 1956، أي بعد تعريب الجيش الأردني. هذا الحدث يمثل نقطة فارقة في تاريخ الأردن، حيث يُنظر إلى تعريب الجيش كعلامة على السيادة الكاملة والاستقلال عن النفوذ البريطاني. يُقدم الكاتب هذا الحدث بمنظور أدبي يجسد مشاعر الفخر الوطني والاستقلال، ليختتم الرواية بنغمة من التفاؤل حول مستقبل الأردن.
التداخل بين التاريخ والجغرافيا
تجمع رواية "جبل التاج" بين التاريخ والجغرافيا بطريقة تنم عن فهم عميق للواقع المحلي والإقليمي. إن التفاعل بين الأماكن والأحداث التاريخية يتجسد في السرد الذي يحيط بالشخصيات، مما يضفي على الرواية بعداً إضافياً من الإحساس بالزمن والمكان. ليس المكان في هذه الرواية مجرد عنصر مكمل، بل هو شخصية بحد ذاته، تشارك في رسم ملامح الشخصيات وحياتها. من خلال تلك الأماكن، يمكن للقارئ أن يستشعر التغيرات التي طرأت على المجتمع الأردني في ظل هذه الحقبة الزمنية.
على سبيل المثال، نجد أن الأماكن التي يزرع فيها الشركس الحقول في جبل التاج تصبح نقطة انطلاق لتحولات اجتماعية وتفاعلات ثقافية. كما أن كل منطقة، مثل "وادي السير" أو "الجسور العشرة"، تحمل في طياتها مفاتيح لفهم ما يحدث على مستوى أوسع في المجتمع الأردني في تلك الحقبة. إن الجغرافيا تصبح هنا وسيطًا للسرد التاريخي، حيث تجسد مشاعر الانتماء والصراع وتكشف التفاعلات بين مختلف الأطراف.
الشخصيات والعلاقات الاجتماعية
الشخصيات في رواية "جبل التاج" ليست مجرد نماذج تاريخية، بل هي كائنات حية تجسد المعاناة والتطلعات في ظل التحولات السياسية والاجتماعية. يعيش الشخصيات داخل هذا الإطار التاريخي والجغرافي المتشابك، ويشكلون مرآة لواقع المجتمع الأردني في تلك الفترة. إن علاقاتهم بالبيئة الجغرافية التي حولهم تتأثر بشكل مباشر بالأحداث التاريخية. يتفاعلون مع التغيرات السياسية والاجتماعية التي تحيط بهم، مما يساهم في تقديم صورة شاملة ومعقدة عن التحديات التي واجهها الشعب الأردني في ظل الاحتلال البريطاني والصراعات الإقليمية.
من خلال شخصية كل فرد في الرواية، يُعرض التحدي الذي يواجهه في محيطه، سواء على المستوى الشخصي أو الجماعي. وعلى الرغم من أن الرواية تحتوي على الكثير من التفاصيل السياسية والتاريخية، إلا أن الكاتب ينجح في إبراز البعد الإنساني لكل شخصية، مما يعمق من فهم القارئ للأحداث التاريخية.
رواية "جبل التاج" للأديب مصطفى القرنة تقدم نموذجاً رائعاً للأدب الذي يمزج بين التاريخ والجغرافيا في سرد واحد. من خلال الأماكن التي تجسد ذاكرة المكان، والشخصيات التي تعكس تاريخ الأردن، فإن الرواية تصبح أكثر من مجرد قصة عن أحداث تاريخية. إنها استكشاف للتغيرات التي طرأت على المجتمع الأردني في فترة مفصلية من تاريخه. وفي نهاية المطاف، تقدم "جبل التاج" لمحة عن الهوية الأردنية والروح الوطنية التي صمدت في وجه التحديات الكبرى التي واجهتها البلاد في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى وحتى تعريب الجيش الأردني في عام 1956.