"عندما تصالحُ ذاتكَ، يُزهرُ الكونُ بداخلكَ

نبض البلد -
بقلمي: د. عمّار محمد الرجوب

في أعماق النفس البشرية بحر لا تُدرك أطرافه، حيث تتكسر أمواج الحيرة على شواطئ الإدراك، وتتعانق الرياح الهائمة بأشرعة الأماني. تلك النفس، التي تهيم بين شغف الاكتشاف ووحشة الضياع، تحمل في طياتها سرًا قديمًا، لغزًا خالدًا لا يُحل إلا بتصالحها مع ذاتها.

كيف لنا أن نعيش ونحن غرباء عن أنفسنا؟ نركض خلف ظلال الأحلام التي لا تكاد تُمسك، ونرتدي أقنعة لا تعبر عنا، نهرب من ضعفنا كأننا مخلوقات خُلقت لتكون كاملة، مع أن النقص هو جوهر الوجود. في لحظة صدق مع الذات، حيث لا جمهور ولا تصفيق، يظهر الجمال الحقيقي للروح، ذلك الجمال الذي يتجلى حين تتوقف عن محاكمة نفسك بقسوة، وتبدأ في احتضان كل ما أنت عليه.

الحياة ليست سوى مرآة تعكس مكنونات أنفسنا. فإن كانت الروح متصالحة، رأت الجمال حتى في أقسى المحن، وإن كانت ممزقة، صارت الحياة أمامها سرابًا شاحبًا، لا معنى له. التصالح مع الذات هو الانحناء أمام عاصفة الماضي، لا ضعفًا، بل احترامًا لكل ما مضى من دروس. هو القدرة على التحديق في عينيك في المرآة، ورؤية إنسان يستحق الحب، ليس لأنه كامل، بل لأنه يحاول، لأنه يخطئ ثم يقف من جديد.

إن أعظم الفلاسفة لم يجدوا جوابًا لأسئلة الكون دون أن يتصالحوا أولًا مع تلك الفوضى التي تسكن داخلهم. أفلاطون حين بحث عن عالم المثل، لم يكن إلا هاربًا من نقص هذا العالم، بينما نيتشه أدرك أن العظمة تكمن في احتضان الضعف وتجاوزه، لا في إنكاره.

فلتجلس مع نفسك، بعيدًا عن ضجيج العالم، ولتسمح لها بأن تتحدث، أن تبوح، حتى وإن كان البوح موجعًا. دَع قلبك يتسامح مع تلك الأخطاء الصغيرة التي حملتها على عاتقك طويلًا، ودَع عقلك يهدأ من جلبة المقارنات المستمرة. أنت لست الآخر، وأنت لست الماضي، أنت الآن، وهذه اللحظة وحدها كفيلة بأن تُعيد ترتيب فوضاك الداخلية.

إن التصالح مع الذات ليس نهاية المطاف، بل هو بداية رحلة حقيقية نحو السلام. السلام الذي لا يحتاج إلى ضوء خارجي، بل ينبع كنبع صافٍ من أعماقك، يغمر حياتك ويمنحك القدرة على مواجهة كل ما هو آتٍ.