"عودةٌ تحت ظل الغياب"

نبض البلد -


بعد غياب واحد وعشرين عامًا عن وطني الثاني ، عدتُ في حالة من الانكسار الداخلي والوجع، محمّلةً بالهموم والألم الثقيلين. كانت الأشواق والوجع كظلٍ ثقيلٍ يلاحقني. رجعت لأرى والدي المريض الذي يرقد في غرفة العناية المركزة، وقد تكون هذه آخر مرة أراه فيها.

لحظة وصولي، لم أصدّق أنني عدت إلى أرضي. ركبت السيارة ونظرت إلى الشوارع التي بدت لي غريبة، وقد تغيّرت ملامحها، وتقلّصت الأشجار التي كانت تظلّل الطريق. جلست مع عائلتي، الذين لم أرهم منذ زمنٍ طويل، وكأنني توقعت أن أجدهم كما تركتهم، ودودين كما كانوا. لكنني شعرت بمسافة زمنية تباعد بيننا.

ثم تذكرت صديقتي المقرّبة هبة. همست لنفسي: "أتمنى أن ألتقي بها." تُرى، هل تزوجت؟ ربما أصبحت أمًّا الآن. سأذهب إلى بيتها القديم وأتحدث مع حارس البناية؛ لعلّه يرشدني إلى عنوانها الجديد. وربما لم تتزوج وبقيت كما عهدتها، تسكن في ذلك البيت المطلّ على النيل، الذي طالما زرته، حيث كنا نجلس ونتشارك كوبًا من النسكافيه. ربما حققت حلمها ونالت درجة الدكتوراه، وربما تعمل في المجال الأكاديمي الآن.

تراودني الأفكار، فيغمرني شعورٌ بالترقب والقلق. بعد غدٍ سأذهب إليها، سأبحث عنها وأراها.

بينما كنت غارقةً في أفكاري، قالت والدتي بوجهٍ مشوبٍ بالحزن: "والدك تحسّن منذ رؤيتك، تحسّن كثيرًا."

أجبتها بامتنانٍ: "الله يشفيه، لقد لاحظت ذلك."

ثم تابعت والدتي: "تعالي يا ابنتي، غدًا سنذهب إلى النادي. أريد أن أجدد العضوية، ونقضي بعض الوقت في حديقة النادي."

"نعم، بالتأكيد، والدتي."

في الساعة الخامسة من مساء اليوم التالي، ذهبنا إلى النادي، جلسنا في الحديقة، وكان الحديث يدور حول والدي. والدتي لا تتوقف عن سرد تفاصيل حالته، وأنا أبادلها الكلام، بينما ذهني يرحل بعيدًا نحو هبة. أفكّر متى سأراها، وماذا أقول لها عندما ألتقي بها.

رغم علم والدتي بكل ما عانيته في الغربة، لم تسألني عن أحوالي، لم تسأل عن تعبي الذي حملته معي عبر السنين. ظلت منشغلةً بوالدي، وأنا منشغلةً بهبة.

تراقبني مشاعر مختلطة وأنا أنتظر رؤية هبة. كيف سيكون لقاؤنا بعد غياب؟ تُرى، هل تغيّرت أم لا تزال هي كما عرفتها؟ أجدني أغوص في الذكريات والأسئلة بينما أجلس بجوار والدتي في النادي، أراقب المارة حولي. شاب يمر مرتديًا ملابس رياضية، يمسك كرة القدم بيده. وأرى امرأة مسنّة بيدها طفل صغير يبدو أنه يرغب بالركض بعيدًا.

الجو صافٍ، والشمس على وشك الغروب، تتوهج بظلالها الناعمة على المساحات حولنا. تمر من أمامي فتاة ترتدي بنطالًا أزرق وسترة حمراء، أراها من الخلف وأستغرق في تفاصيلها: خصرها الرشيق، وأناقة ملابسها. تسير مبتعدةً حتى تتلاشى عند نهاية الطريق، وتبقى أفكاري تتنقل معها.

تشعر والدتي بشرودي فتسألني: – هل تودين شرب شيء؟

أجيبها بابتسامة خفيفة: – لا، النسكافيه كافٍ.

تتحدث معي والدتي عن بدايات مرض والدي، عن تعبها ومشقتها خلال رحلة العلاج الطويلة. أستمع لها وأشعر بعمق ألمها، لكن عيني تعودان للطريق الممتد في النادي، وتعود أفكاري لهبة. غدًا سأذهب إليها، سأعرف كيف مرت بها السنين، هل لا تزال جميلةً طيبةً كما عرفتها، هل لا تزال تحمل تلك الروح التي تحب الضحك والمرح، التي تغمرني بالحديث والحياة.

أفكاري تقاطعها نظرة سريعة للفتاة التي مرت أمامي سابقًا، ها هي تعود مجددًا، تقترب مني وتكشف عن وجهها شيئًا فشيئًا. فجأة، تدبّ في قلبي مشاعر غير متوقعة: إنها هبة!

أسرع إلى والدتي بلهفة: – إنها هبة! أترينها؟

تضحك والدتي وتقول: – ربما تتخيلين، أهي مجرد أمنية؟

لكنني أصرّ وأقرر أن أناديها بصوت عالٍ، وأقول بحماسة: – هبة! هبة!

تلتفت الفتاة، تحدق بي لوهلة، ثم تبتسم وتقترب: – من يناديني؟

أقفز من مكاني وأتجه نحوها بفرح غامر، وأقول: – أليس أنتِ هبة؟ أنا لطيفة!

تحدق فيّ بدهشة وكأنها تحاول استيعاب ملامحي المتغيرة، ثم تعانقني قائلة: – لا أصدّق، تغيّرتِ كثيرًا!

أمسك بيدها وأدعوها للجلوس معنا. تحدثنا، تبادلنا الحكايات، ضحكنا على ذكرياتنا القديمة وكأن السنين لم تمضِ بنا. كانت فرحة اللقاء عارمة، وهبة كانت أسعد مني بلقائنا.

ومنذ ذلك اليوم، أصبحنا نتقابل بانتظام في النادي، مرةً نتحدث في الحديقة، وأخرى على التراس، نستعيد تفاصيل رحلتنا في الحياة، ونلملم ما تفرق من أيامنا، وكأننا نحاول إعادة بناء كل ما فاتنا معًا.
ق.ق/ لطيفة محمد حسيب القاضي