صالح سليم الحموري
في ظل الثورة الرقمية التي يشهدها العالم، أصبح من الضروري أن تتكيف الحكومات مع هذه التحولات الكبيرة من أجل تلبية احتياجات المواطنين بشكل أكثر كفاءة ومرونة. اليوم، لم يعد النموذج التقليدي لإدارة الحكومات كافيًا لمواجهة التحديات المتزايدة التي تفرضها التكنولوجيا الحديثة. من هنا برز مفهوم "الحكومة كمنصة" كأحد الحلول المبتكرة التي تعيد تشكيل دور الحكومات وطريقة تقديمها للخدمات. يستند هذا المفهوم إلى تحويل الحكومة من مجرد مؤسسة تقدم خدماتها عبر قنوات ثابتة، إلى منصة رقمية تجمع بين مختلف الجهات الحكومية والخاصة، بهدف تقديم خدمات متكاملة وسلسة للمواطنين.
على مر التاريخ، تطورت الحكومات لتلبية احتياجات مجتمعاتها المتغيرة. ومع ذلك، لا يمكن النظر إلى التحول الرقمي للحكومات بمعزل عن التحديات الكبيرة التي تواجهها في هذا السياق. واحدة من أكبر هذه التحديات هي الفجوة الرقمية،رغم انتشار الإنترنت والتكنولوجيا الحديثة، إلا أن نحو 50% من سكان العالم لا يزالون غير متصلين بالإنترنت، مما يعني أن الكثيرين منهم غير قادرين على الاستفادة من الخدمات الإلكترونية التي توفرها الحكومات. هذا الواقع يزيد من خطر تفاقم الفجوة بين المناطق الحضرية والريفية، خاصة في الدول النامية.
بالإضافة إلى الفجوة الرقمية، تواجه الحكومات تحديًا آخر وهو الأمن السيبراني، مع تزايد الاعتماد على الأنظمة الرقمية، أصبحت الهجمات السيبرانية تهديدًا رئيسيًا للأمن القومي. على سبيل المثال، في عام 2007، تعرضت إستونيا لهجوم سيبراني واسع النطاق استهدف مواقع حكومية وخدمات إلكترونية، مما تسبب في شلل مؤقت لبعض الخدمات الحيوية. إلى جانب ذلك، تزداد المخاوف من الهيمنة التكنولوجية للشركات الخاصة، حيث تعتمد العديد من الحكومات بشكل كبير على منصات تجارية كبرى مثل"جوجل وفيس بك" لتقديم خدماتها الرقمية. هذا يثير تساؤلات حول السيادة الرقمية وإدارة البيانات الشخصية للمواطنين.
في مواجهة هذه التحديات، يأتي مفهوم "الحكومة كمنصة" ليقدم حلاً مبتكرًا. فبدلاً من أن تكون الحكومة مجرد مزود للخدمات، تصبح منصة تسهل تقديم الخدمات الرقمية بالتعاون مع القطاع الخاص. في هذا النموذج، تعمل الحكومة كميسر لعمليات تقديم الخدمات، مما يجعل العملية أكثر مرونة وكفاءة. أحد الأمثلة البارزة على هذا النموذج هو منصة GOV.UKفي المملكة المتحدة، التي تتيح للمواطنين الوصول إلى مجموعة متنوعة من الخدمات الحكومية مثل تسجيل الشركات، تقديم الضرائب، وطلبات التوظيف من خلال بوابة موحدة وسهلة الاستخدام. مثال آخر هو نظام الهوية الرقمية في إستونيا (e-Estonia)، الذي يعد نموذجًا رائدًا في توفير خدمات حكومية متنوعة عبر الإنترنت مثل التصويت الإلكتروني، الطب الرقمي، وتقديم الضرائب.
إلى جانب هذه الأمثلة، هناك أيضًا تحول متزايد نحو الحوكمة الرقمية. تعتمد الحوكمة الرقمية على استخدام البيانات الضخمة والتحليلات لتحسين كفاءة الحكومات وتقديم خدمات أكثر فعالية. على سبيل المثال، نظام أدهار الهندي(Aadhaar)، الذي يعد أكبر نظام هوية رقمية في العالم، يستخدم لتسهيل الوصول إلى الخدمات الحكومية لأكثر من مليار شخص. ومع ذلك، يواجه هذا النظام تحديات تتعلق بخصوصية البيانات وأمانها، وهو ما يبرز أهمية إيجاد حلول تضمن حماية المعلومات الشخصية.
وعند النظر إلى المستقبل، يمكننا أن نرى ثلاثة نماذج رئيسية للتطور الحكومي الرقمي، كما تم ذكرها في تقرير صادر عن القمة العلمية للحكومات بعنوان "مستقبل تطور الحكومات" النموذج الأول هوالحكومة المسيطرة، حيث تسيطر الحكومة بشكل كامل على المنصات الرقمية وتدير جميع العمليات بنفسها. هذا يوفر للحكومة سيطرة كاملة على البيانات والخدمات، لكنه قد يحد من الابتكار. النموذج الثاني هو الحكومة كمدير، حيث تشرف الحكومة على المنصات الرقمية التي يديرها القطاع الخاص، مما يعزز الابتكار مع الحفاظ على بعض السيطرة الحكومية. أما النموذج الثالث فهو الحكومة كمنظم، حيث تلعب الحكومة دورًا تنظيميًا وتسهيلًا للعمليات الرقمية التي يديرها القطاع الخاص، مع تعزيز التعاون بين القطاعين لتحقيق الابتكار والمرونة.
من الواضح أن الحوكمة الرشيدة والابتكار يلعبان دورًا حاسمًا في نجاح التحول الرقمي للحكومات. تحتاج الحكومات إلى أن تكون مرنة وقادرة على التكيف مع التحولات السريعة، مع الحفاظ على الشفافية والمساءلة. في هذا السياق، يمكن الإشارة إلى مختبرات الابتكار الحكومية في دول مثل المملكة المتحدة وكندا، التي تطور حلولًا مبتكرة لتحسين الخدمات العامة وتعزيز التفاعل مع المواطنين.
في الختام، يشير الخبراء إلى أن مستقبل الحكومات سيعتمد بشكل كبير على تبني نموذج "الحكومة الهجينة"، حيث يتم الجمع بين سيطرة الحكومة على بعض الخدمات والتعاون مع القطاع الخاص في إدارة باقي الخدمات. هذا النموذج يضمن تحقيق التوازن بين الابتكار والشفافية، مع الحفاظ على السيادة الوطنية. ومن الأمثلة على ذلك منصة "دبي الآن"، التي تقدم خدمات حكومية متنوعة بالتعاون مع القطاع الخاص، مما يسهم في تحسين سرعة وكفاءة تقديم الخدمات.
من خلال تبني هذا النموذج الهجين، يمكن للحكومات أن تضمن تقديم خدمات أفضل للمواطنين مع تعزيز قدرتها على الابتكار والتكيف مع التحديات المستقبلية.