نبض البلد - خليل النظامي
تمضي الساعات والأيام، والشهور تتشكل أمامي كزرع والدتي الطيبة، لترسم السنوات تلو السنوات، كما رسم والدي الطيب كروم مزارع العنب واللوز،،، ولا زال العشق الأول يتغلغل ويتجدد في قلبي كتجدد تربة الأرض المباركة، فلا خلاص ولا مناص من هذا العشق الذي بات كالسّم المخلوط برائحة المسك,,,
فمنذ أن فقدت أول عشيقة تربعت على عرش قلبي، وأنا تائه كرحالة دائم السفر حيث اللاعنوان، هارب من المعلوم المؤلم إلى المجهول الغامض، في طريق اتجاهها واحد، حيث اللاعودة، عنوانها "بلا"، وهدفها "بلا"، وغايتها "بلا"، ورفاقها "بلا"، وكل شيء فيها "بلا" سوى الألم الساكن، والعذاب المستتر خلف جدران هذا الجسد الباهت,,,,,,
الشوق نار لا تنطفئ، والعناق أمل بلا مأمول، وتبادل القبل أضغاث أحلام، ورائحة الشعر المنسدل كوابيس لا تنفك عني، وصحراء العيون متاهة أبدية...
وكأن جسد المسافر الرحالة قد شُطر إلى نصفين، كما شُطر النهار والليل، تجده في النهار كذئب الجبل المغوار، لا يشق له غبار، مقاتل بعنفوان، ومرعب حد الجنون، وخصم شرس جدًا لا يُقهر، منظره فائق الجمال عن بعد، والاقتراب منه خطورة لا تُحمد عقباها، مفعم بالحيوية والطاقة، يتنقل من جبل إلى جبل، ويغوص في أعماق الهضاب والسهول كالرياح...
وبمجرد دخول الليل، تتحول قوته إلى ضعف، والجمال إلى بشاعة، والطاقة تصبح مجرد سكون، فتجده "هشًا ضعيفًا هزيلاً"، والصمت عنوان لليلته، لونه الأسود، وحكايته ذكريات لأطلال راحلة، ورائحته كرائحة نهر هجرته المياه ولم تزره الأمطار منذ قرون,,,,
ليس له من رفاق سوى تلك المكتبة الأفلاطونية الصغيرة، وعلبة سجائر رخيصة، ومطفأة عفنة الراحة، وكأس بارد من القهوة السوداء، مذاقه كمذاق نبيذ خُزن في أرض رطبة، والسهر متلازمة والنوم هاجر دون عودة...
وما بين مضي النهار والليل وتقلب الأحوال بين متضاداته، تزور الرحالة الدائم السفر أزهار بألوان مشرقة، وجمال يانع، عيونها كالسحر، وقلوبها كنبتة الفطر؛ لا تعرف طيب مذاقها من سمّها,,,,
تارة تجدها تنتظره على نافذة وكره البائس، وتارة ترسل له رسائل معطرة في صندوق بريده الإلكتروني، وتارة أخرى يراها في الشوارع والمقاهي التي يتنقل بينها، وأحيانًا عبر الهاتف اللعين،،،،
تدخله في حيرة من أمره، ويهيمن على مشهده الخوف والحسرة؛ الخوف من جمال وسموم هذه الفراشات اليافعة، والحسرة لأنه لا يملك ما يقدمه، فقد مات قلبه وضاعت أجمل سنوات عمره، وتاه عن بوصلة الحياة...
وما بين فراشة وأخرى،،،،
يبحث الرحالة البائس عن محطة استقرار تريحه من سنوات ترحال استنزفت كل ما فيه، يحاول بكل قوته أن يرافق إحداهن ويصادقها، ويمنحها الفرصة لدخول قلبه الميت، ظنًا منه أنها ستنعشه من جديد ليحيا،،،
ويعتقد أنه ما زال العاشق "العبسي" الذي يخط الروايات والقصص، وينثر كلماته كـ"امرؤ القيس" في وصف خصلات شعر معشوقته الغجرية، موهمًا روحه أنه الأمير الفارس الذي يحمل تلك الفراشة إلى قصره العظيم ليبني لها حدائق أجمل من حدائق "بابل"،،،
مندفعًا بما لديه من علم وفكر وفلسفة وأسلوب حديث لبق يتخلله غزل عفيف، وبعض الإيحاءات المحسوسة لمكنونات جسده المتعفن الذي يوهم نفسه أنه ما زال جسد فارس...
وفي كل مرة يعود بائس الحال، فاشلًا جبانًا، فالتغريدات التي يغرد بها عتيقة جدًا، والروح التي تسكنه تلفت وعفا عليها الزمان،،،
فكره وفلسفته وعلمه أساطير من التاريخ، وحتى مشاعره وجسده قد صدئا بفعل الترحال، ولم يعودا صالحين لكل الأجيال،،،
قلبه كجزيرة لا يسكنها سوى الأشباح، وصرخات لها أصداء كوصف عذاب القبر لكافر ملحد،،،
كل ما فيه أصبح عتيقًا وقديمًا ومنتهي الصلاحية، ولا يمثل شيئًا أمام رغبات وطموحات وغرائز الفراشات اليافعات، فتجدهن سرعان ما يشبعن فضولهن بمعرفة العالم الغامض الذي يسكنه هذا الرحالة المسكين، ثم يغادرن محطته ويتركنه وحيدًا كما كان، وتختصر رحلتهن القصيرة معه بجملة بسيطة:
أيها الرحالة ,,, "أنت في البعد أجمل".