مهند العزة
لم يكن في انتخابات المجلس النيابي العشرين في الأردن شيءً مفاجئاً أو خارجاً عن المألوف، سواءً في نسبة المقترعين التي لم تتجاوز 32% أو في نتائجها التي أبرزت تفوقاً لتيار الإسلام السياسي متمثلاً في حزب جبهة العمل الإسلامي الذي حصد 31 مقعداً بنسبة تزيد على 22% من إجمالي عدد مقاعد مجلس النواب.
تساءل عدد من المتابعين للشأن السياسي والبرلماني عن سبب هذا التقدم الكاسح للأخوان المسلمين في هذه الانتخابات، وانطلقت تحليلات متعددة بعضها يعزو الأمر للظروف الإقليمية السائدة خصوصاً الحرب على قطاع غزة والضفة الغربية، بينما وجد جانب آخر الجواب في عدم وجود منافسة حقيقية من الأحزاب الأخرى سواءً القديمة أو الناشئة بسبب ضعف برامجها. والواقع أن هذه التحليلات صحيحة في جانب منها لكن ما يجب البحث فيه هو الأسباب الجذرية التي تؤدي دائماً لفوز التيارات الإسلامية بأي منافسة سياسية سواءً كانت انتخابات برلمانية أو محلية أو نقابية.
اعتمد حزب جبهة العمل الإسلامي الاستراتيجية التقليدية ذاتها المتبعة من قبل الحركة الأم (حركة الأخوان المسلمين) في تحقيق مكاسب ملحوظة في انتخابات المجلس النيابي العشرين في الأردن. وأول عنصر في هذه الاستراتيجية هو استثمار الأزمات المواكبة لحدث الانتخابات، وما من أزمة أكثر خصوبةً للاستثمار من العدوان الراهن على قطاع غزة والضفة الغربية بما يمثله من جرائم إبادة، لذلك جاءت شعارات مرشحي الحزب وخطاباتهم متماهيةً مع قواعد الاستثمار واستدرار مشاعر الغضب الجمعي مما يحدث في القطاع ومن عدم قدرة الأنظمة العربية والإسلامية على القيام بخطوات تطفئ ولو قليلاً هذا الغضب وتتجاوز حملات جمع التبرعات وإصدار بيانات الاستنكار والإدانة، ليرمي الحزب بثقله في هذا الفراغ المواقفي ويقدم نفسه كما هي عادته بأنه المنقذ والحل لكل مشكلة استعصت على الأنظمة من خلال شعارات دينية قوامها وعمادها أن «من يؤيدهم فقد انتصر لله وأمة المسلمين والأبرياء في فلسطين، ومن يعارضهم –بمفهوم المخالفة- فهو في جانب المتؤامرين والمتخاذلين»، ولسنا في مقام تفنيد تسويف هذه الشعارات التي يشهد تاريخ حركة الإخوان المسلمين بالطابع التجاري والاستثماري لمواقفهم وشعاراتهم، وما على المهتم إلا مراجعة مواقفهم من معاهدات السلام ومواقفهم المتأرجحة مع بدايات «ثورات الربيع العربي» ثم ركوبهم موجات هذه الثورات وما أظهرته الحركة وربيباتها في تلك الفترة بمن فيهم حزب جبهة العمل الإسلامي من إرهاصات تمرد واستقواء سياسي بل وبالسلاح.
العنصر الثاني الذي اعتمد عليه حزب جبهة العمل الإسلامي وتاجر به في انتخابات مجلس النواب العشرين هو ترديد نشيد المؤامرة البائس والممل الذي يُطرِب مجتمعات تستشعر الضعف الفكري والعلمي والسياسي فلا تجد سوى إلقاء اللائمة على الآخر في ما وصلت إليه من تخلف بأنه سبب حالها البائس وأوضاعها المتردية. فحزب جبهة العمل الإسلامي من خلال ممثليه في المجلس السابق لم يخجل من اللعب بهذه الورقة إلى أبعد مدى تجاوز فيه كل قيمة أخلاقية وإنسانية، حيث تجلى ذلك بمحاربة قانون حقوق الطفل وتشويه أعظم قيم إنسانية تدعو لاحترام هوية الطفل وتطوره الفكري وتلبيس هذه القيم والمبادئ التي أجمعت عليها أمم الأرض المتمدينة شُبَه مختلقة على رأسها كما هو ديدنهم طبعا: «الشذوذ الجنسي»، تماماً كما فعلوا أثناء مناقشة التعديلات الدستورية الأخيرة الخاصة باقتراح إضافة كلمة "الأردنيات” إلى عنوان الفصل الخاص بحقوق المواطنين وواجباتهم في الدستور، إذ جعلونا أضحوكة العالم وهم يمارسون انحرافاً فكرياً حول هذه الكلمة التي شطح بها خيالهم المسكون بالشبه إلى حد جعلها أيضاً نافذةً ل«الشذوذ الجنسي»، ناهيك عن الحساسية المرضية التي يعانون منها كلما قرأوا أو سمعوا كلمة (جندري)التي من فرط حساسيتهم منها يخيل إلي أنهم يقرؤونها ويسمعونها (جدري) ، فهي لديهم مثل غيرها تقود إلى «فساد أخلاقي وشذوذ جنسي»، وبغض النظر عن سر هذه المتلازمة الغريبة بين الحقوق و«الشذوذ» التي يعاني منها القوم، فالمهم هنا هو أن ممثلي هذا الحزب استصحبوا خلال حملاتهم الانتخابية خرافة «التآمر علينا من الغرب» دون أن يقولوا لنا من هو هذا الغرب تحديداً؟ ودون أنيفسروا لنا كيف ولماذا خدم هذا الغرب ودعم القضية الفلسطينية وضحايا العنف والتعذيب في دولنا أكثر منهم؟ ولماذا يؤوي قيادات الأخوان المسلمين ويسمح لهم بممارسة نشاطهم السياسي والإعلامي دون قيود؟ وكيف يؤويهم ويمنحهم ما حرموا منه في دولهم ثم يتآمر عليهم!
العنصر الثالث الذي خدم حزب جبهة العمل الإسلامي في الانتخابات من وجهة نظري، هو ما تعرضت له نقابة المعلمين من حل عقب إضراب عام 2019 الذي نادى له ونظمه أعضاء النقابة الذين هم من الصف الأول في جماعة الحزب ونزل بعضهم للانتخابات، فهب عدد كبير من المعلمين الساخطين على أوضاعهم المعيشية لانتخاب الحزب وممثليه ليس بالضرورة إيماناً ببرامجهم ولكن ربما نكايةً بالدولة التي حلت نقابتهم.
يضاف إلى كل ما تقدم بطبيعة الحال ضعف المنافسين من الأحزاب الأخرى، إما بسبب حداثة نشأتها أو بسبب عدم تطور القديم منها وبقائه على أساليبه وشعاراته التي بات معظمها خارج السياق.
لا يمكن إنكار أن فوز حزب جبهة العمل الإسلامي جاء عاكساً لإرادة من خرجوا للاقتراع وإحباط ويأس من لم يقترعُ وهم الأغلبية، وما من شيء يمكن أن يوازن كفة الميزان ويضع تيارات الإسلام السياسي في مكانها الصحيح باعتبارها حركات أصولية تتبنى أيديولوجية إقصائية متطرفة على الرغم من البرغماتية البهلوانية التي تمارسها من حين لآخر، إلا بوجود تيار مدني قوي يخاطب العقل ويبين مساحات التسامح والتعايش واحترام الخلاف والاختلاف التي لا يعرفها الإسلام السياسي لأنها عناصر تقويضه وانهياره.