نبض البلد - سعيد الصالحي
في النصف الثاني من شهر آب اللهاب من العام 1996 كنت عائدا من الجامعة بعد أن أعلمني المسجل العام في دائرة القبول والتسجيل بأنني لن أتخرج مع زملائي لأنني قد حملت ساعات حبطرش تتطلب مني أن أخدم عاما آخرا في الجامعة للحصول على شهادة البكالوريس، غادرت الجامعة حزينا ونادما على طيشي وغبائي وخائفا من التقريع الذي سأسمعه بمجرد عودتي إلى المنزل، نزلت من باص الكوستر بعد أن شكرت السائق "عودة" على وصولي بالسلامة إلى حارتنا، لأجد في وجهي صحيفة يعتلي إحدى زوايها رجلا مبتسما ينتعل حذاء كبيرا مكتوب عليه "السعر (٣) برايز" وكان اسم الصحيفة "عبد ربه"، استغربت من اسمها وبعد أن ألقيت التحية على صديقي صاحب السوبر ماركت، أمسكت الصحيفة وبدأت بتقليب صفحاتها وأخذت أضحك ولا كأنني "راسب" ونسيت همي الشخصي وخوفي من بهدلة البيت وبدأت بالضحك على رسوب غيري مطبقا المثل الشعبي "اللي بشوف مصيبة غيره بتهون عليه مصيبته"، وأمسكت خواصري من الضحك عندما شاهدت صحفيا يمسك ميكروفونا ويجري حوارا مع حمار مثقف وحكيم من أصول قبرصية، وعرفت فيما بعد أن الكاتب والصحفي الذي أنفرد بهذا السبق الصحفي النوعي هو الأستاذ يوسف غيشان.
ومنذ تلك اللحظة باتت زاوية "شغب" التي يحررها غيشان في صحيفة عبد ربه المربع الأول الذي أبحث عنه وأقرأه ثم بعد ذلك أفلي كل صفحات الصحيفة، ولم يكن مصير "عبد ربه" في بيتنا كغيرها من الصحف فلم نلف بها ضمة ملوخية ولم نلمع بها زجاج الشبابيك ولم نكفن بها الأواني الخزفية التي سنخزنها ولن نستخدمها، فقد إحتفظت بكل الأعداد التي كنت أواظب على شرائها وما زلت محتفظا بها حتى اليوم.
كانت الصدف تحملني دائما نحو الأستاذ غيشان فذات يوم كنا ننتظر صحن الحمص والفول وبعض حبات الفلافل لنتناول وجبة "البرانش" كما يسميها أولاد اليوم؛ وهي تلك الوجبة التي تأتي بين الفطور المتأخر والغداء المبكر، وقام صديقي بفرش الجرايد على طاولة صغيرة في المحل، حتى نزيت كلماتها ونطعمها بعض فتات خبزنا أثناء هجومنا الذي لا يرحم على الطعام، فلمحت اسم يوسف غيشان على عمود فيها فأخذت صفحة الجريدة ولا أعرف إن كنت حميت كاتبنا ذلك اليوم من الزيت واللقم المتساقطة أم حرمته منها؟ ومنذ ذلك اليوم بدأت أتابع عواميده في الصحف العديدة التي كان يكتب فيها كلما وجدت ثمن الجرائد أو إن أستطعت ان اقرأها خلسة ومجانا على باب البقالة التي تبيعها.
وصدفة أخرى جمعتني به بعد سنوات عندما كنت أسير في وسط البلد بجوار كشك ومكتبة الطليعة لأجد عنوانا لكتاب صغير اسمه "لماذا تركت الحمار وحيدا؟" وكان غيشان هو الكاتب والمتسائل فاشتريت الكتاب وكل ما تيسر من كتبه لدى المكتبة وقفلت عائدا نحو منزلي لأضحك وأبكي وأنا أقلب الكتب.
وعندما ظهرت وسائل الاتصال بالانتشار وتحديدا الفايسبوك بحثت عن حساب الأستاذ يوسف لأطلب صداقته فوجدت أن حسابه أستنفذ عدد الأصدقاء المسموح بهم وكالعادة عندما يتعلق الأمر بغيشان هذا الأمر أفرحني وأحزنني وأكتفيت بمتابعته ووضع علامة "أعجبني" قبل أن أقرأ.
يوسف غيشان كاتب ساخر يحول أي كلمة أو موقف إلى صورة كاريكاتيرية تماما كناجي العلي ولكن غيشان يستخدم قلم حبر بيك وورقة فلسكاب، وأظن اليوم أنه واكب التقنية الحديثة وبات يكتب مقالاته على هاتفه أو جهازه الشخصي دون أن ينسى جذوره البسيطة التي طالما تحدث عنها، فمن خلال غيشان عرفت عزيز نيسين وجلال عامر وغيرهم من الكتاب الساخرين، وهو قامة مثلهم تماما في هذا النوع من الكتابة الساخرة، لكن حظه قليل وعلى الأغلب نحن من لا يعرف قيمة هذا الكاتب وقدره ومستوى جودة أعماله وكتاباته.
فجلال عامر ابن النيل وابن شعب يعتبر تؤام النكتة والقفشة على حد تعبيرهم، فالنكتة في جيناته أما يوسف غيشان فقد وجد نفسه كاتبا ساخرا في بيئة متجهمة، وتعتبر الضحك في بعض الأحيان ينتقص من الرجولة، وعلى الرغم من ذلك استطاع أن يعبر يم الكتابة الساخرة متحديا أمواج المجتمع وأعرافه التي لا تعترف بالضحك إلا في الغرف المغلقة وبعيدا عن أعين الناس.
لعل سئم غيشان من الكتابة النمطية المنتشرة في مجتمعنا وكذلك من المثقفين أو أشباههم الذين يلتقون يوميا في المقاهي أو على صفحات الجرائد ومن آرائهم التي لا تعبر عنه ولا تلامسه، فاختار غيشان السخرية طريقا للخلاص، وعلى الرغم من صعوبتها، كان غيشان وما يزال كالصقر الذي يحلق عاليا للبحث عن فرائس السخرية في كل مكان، وكان يصطاد شخصياته وكائناته بكل مهارة وشطارة ليثري مشروعه الساخر الذي لا يعرف حدودا.
عندما تقرأ في كتب غيشان أو مقالاته تجد إنسانا يجيد السخرية من كل شيء بدء من نفسه وانتهاء بأي شيء، ولكنه يسخ…