نبض البلد - مهنا نافع
تربية الأبناء هي مسؤولية جماعية، جلها يقع على عاتق الوالدين أولا، ثم المجتمع ثانيا، لذلك كان هناك لأي خطب ما مهما كبر أو صغر لوم متبادل، فأرباب الأسر تلوم المجتمع على ما آلت إليه أحوال أبنائهم، وبالمقابل المجتمع يضع كل اللوم عليهم واصفا إياهم بكل مرادفات التقصير والإهمال، قساوة بالوصف لا تبقي أي فسحة ولو قيد أنملة لجملة أو حتى لكلمة عذر لهم.
إن بعض النظريات والتي اعتبرها باللاأخلاقية، تدعي بأن الأخلاق الحميدة أو غير الحميدة تورث وكأنها صفة بجين وراثي ما، ولكن هذا أمر غير صحيح فكما أن لا أحد يمتاز بوصف لا فضل له به، وكذلك لا أحد يوسم بصفة سيئة لا ذنب له بها، والحقيقة أنه موضوع تربوي بحت نجاحه للحد المقبول يعتمد علينا، واليوم أصبح له ثلاث قنوات لها التأثير المباشر على تربية الأبناء (حديثي الخبرة)، فالقناة الأولى هي الأسرة والثانية هي المجتمع، أما القناة الثالثة فهي وليدة الثلاثة عقود الأخيرة وتشمل وسائل الاتصال والتواصل بكامل أنواعها.
إن المسؤولية الأسرية تجاه الأبناء تبدأ أولا بالحرص على تقديم القدوة الحسنة، ثم الرقابة المباشرة من خلال القرب والتفاعل معهم والاستماع بدقة لهم لفهم اهتماماتهم ومن ثم التقويم الرفيق لأي سلوك غير سوي لديهم، فالأبناء في مقتبل العمر يتأثرون بمن هم أكبر منهم، وإن بدا عليهم في مرحلة ما عدم الاكتراث لذلك، ولكن بمرور الوقت واكتساب النضوج من خلال الوعي تعود بهم الذاكرة للصورة المثالية لتلك القدوة الحسنة، ولكن هذه المرة تكون مدعمة بالدليل والبرهان من خلال التجربة الشخصية التي يمرون بها.
لا شك في أن الظرف الاقتصادي الصعب الذي قد يمر به أي من أرباب الأسر يتوجب عليهم مضاعفة جهودهم للسعي وراء رزقهم سواء من سفر للخارج أو انشغال يومي قد يلهيهم عن متابعة الكثير من التفاصيل المتعلقة بتربية الأبناء، لذلك كان هناك دورا إيجابيا لتغطية هذا القصور من أحد الأفراد المقربين من الوالدين، وغالبا ما كان هذا الدور منوطا بالجدود وقد يمتد إلى الأعمام أو الأخوال.
إن مجتمعنا ما زال قريبا من وصف خاص لطبيعة مكوناته الأسرية وهي الأسرة الممتدة، والتي كان دائما لأفرادها دور فعال لتغطية أي تقصير خارج عن إرادة الآباء، ويأتي الدور الإيجابي لأي طرف يتقدم للمساعدة لتحمل هذه المسؤولية التربوية ولو بشكل مؤقت بالحرص على عدم التقليل من دور الوالدين، بل دعم مكانتهم والثناء عليهم وعلى ما يقومون به من جهد وتضحيات لتأمين تكاليف المتطلبات المعيشية، فبالمحصلة هي مساعدة طوعية للإشراف والمتابعة، لا إحلال بها لأي مكانة أبوية، فلا شيء أصعب من تشتيت الطفل أو حتى الشاب باختلاط الأمر عليه لتحديد المرجعية الأولى لأي قرار يتعلق به.
إن نجاح الأسرة بتحمل مسؤوليتها التربوية على خير وجه تجاه الأبناء لا بد من أن يكون بالتوازي مع نجاح المنظومة المحكمة من التشريعات والقوانين والتعليمات التي تنظم وتضبط علاقة الأبناء الذين لم يبلغوا سن الرشد مع المجتمع المحيط خارج أسوار منازلهم، وتأتي المدرسة كأهم مؤسسة لهؤلاء الأبناء خارج تلك الأسوار والتي سيتفهم القائمون عليها الأساتذة الأفاضل حاملي مسؤولية الرسالة التربوية التعليمية حداثة خبرات هؤلاء الأبناء والعمل على احتواء زلاتهم وتقويم أخطائهم، وهنا يأتي دور المسؤولية الحكومية التربوية بتقديم الدعم وبسخاء لكامل المنظومة التعليمية واستقطاب الكفاءات التربوية التعليمية عالية المستوى، فالاستثمار الأجدر باهتمام الجميع كان ولا يزال الاستثمار ببناء الإنسان.
وكما ذكرنا عن مسؤوليات أرباب الأسر الحرص على تقديم القدوة الحسنة، كذلك لا بد من تقديم وإبراز النموذج الحسن للشخصيات العامة المؤثرة ذات الصيت الذائع في المجتمع، ولا بد من أن يدرك هؤلاء الأشخاص ذوي المكانة المرموقة وخاصة لدى الشباب المسؤولية الاجتماعية المهمة التي تقع أيضا على عاتقهم وذلك بالحرص على تقديم النموذج المثالي الذي يتناسب مع القيم والعادات الحميدة الأصيلة ولا ضير من استغلال هذه الشهرة التي اكتسبوها لرد الجميل لأبناء مجتمعهم.
أما المسؤولية التربوية الأهم التي تحتاج إلى تضافر كل الجهود فهي السيطرة وبكل ما تعنيها الكلمة لذلك المحتوى القادم لنا من تلك القناة الثالثة التي ذكرناها والتي تشمل كافة وسائل الاتصال والتواصل المختلفة فقد ثبت أن هذا المحتوى لا يمكن السيطرة عليه إلا من خلال الرقابة الأبوية المباشرة وبالتزامن مع الرقابة الرسمية مما قد يمنع أو يقلل من تأثيره الضار على أبنائنا.
لا شك في أن المسؤولية التربوية لم تعد تدار بالطريقة التقليدية فالثوابت من مكارم الأخلاق متفق عليها ولكن الشرور والمفاسد غيرت الكثير من طرقها السابقة، وتم الخلط بكل دهاء بين السم والدسم، واليوم لم تعد هذه المسؤولية فردية وأصبحت منظومة متكاملة متعددة العناصر المترابطة التي تعتمد على بعضها البعض للتحقيق نجاحها، فهي منظومة أسرية مدرسية اجتماعية حكومية شاملة، ولا بد لكل جهة من فهم واجباتها وتحمل كامل مسؤوليتها تجاه هذا الجيل الجديد جيل المستقبل القادم.