د. أيوب أبودية
من الأهمية بمكان أن نعترف بأن الحرب العالمية الثانية لم تكن صراعًا تم خوضه في ساحة المعركة فحسب، بل كانت أيضًا مجابهة دامية أدت إلى معاناة إنسانية، وفظائع عظيمة، وجرائم حرب وتهجير للسكان الألمان، في أثناء الحرب وبعدها. ورغم أن قدراً كبيراً من الاهتمام كان منصباً على الفظائع التي ارتكبتها ألمانيا النازية ضد السوفيت والبولنديين واليهود وغيرهم، فمن الضروري أيضاً أن ندرس تصرفات القوى المتحالفة، وخاصة الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية، في أعقاب انتهاء الحرب في ألمانيا.
شهدت الفترة التي تلت نهاية الحرب العالمية الثانية دمارًا وفوضى واسعة النطاق في ألمانيا. وتحولت المدن إلى أنقاض، ونزح الملايين، وواجه السكان الألمان مصاعب هائلة ومجاعات رهيبة وهم يكافحون من أجل البقاء وإعادة بناء حياتهم. وفي خضم هذه الاضطرابات، ظهرت تقارير عن الفظائع التي ارتكبتها القوات السوفيتية والأمريكية ضد السكان المدنيين الألمان في ألمانيا وبولنداوتشيكوسلوفاكيا وغيرها من المناطق التي كانت مأهولة بالألمان.
واحدة من أكثر الأمثلة الموثقة جيدًا للفظائع التي حدثت بعد الحرب حدثت في الأراضي التي يحتلها السوفييت في شرقي ألمانيا. إذ شارك الجنود السوفييت في عمليات النهب والاغتصاب والعنف على نطاق واسع ضد المدنيين الألمان، وخاصة النساء والفتيات. وكان حجم هذه الفظائع مذهلاً، حيث تشير التقديرات إلى أن الملايين من النساء الألمانيات تعرضن للعنف الجنسي والجسدي على يد القوات السوفيتية. اكتشف الروائي فاسيلي جروسمان، وهو مراسل حربي تابع للجيش الأحمر الغازي، كما جاء في صحيفة الجارديان تحت عنوان: "الجنود الروس اغتصبوا كل أنثى ألمانية من سن الثامنة إلى الثمانين"، أن ضحايا الاغتصاب لم يكن من الألمان فقط. إذ عانت النساء البولنديات والروسيات والبيلاروسيات والأوكرانيات اللاتي أعادهن الفيرماخت إلى ألمانيا للعمل بالسخرة. وأشار إلى أن "الفتيات السوفيتيات المحررات كثيرا ما اشتكين من اغتصاب الجنود السوفيت لهن".
وبالمثل، في المناطق الغربية من ألمانيا المحتلة، تورطت القوات الأمريكية أيضًا في أعمال عنف وانتهاكات ضد المدنيين الألمان. إذ تم الإبلاغ عن حالات النهب والاعتقالات التعسفية والقتل خارج نطاق القضاء والعدالة، حيث سعى الجنود الأمريكيون إلى تأكيد سيطرتهم على سكان العدو المهزومين.
علاوة على ذلك، نفذ الحلفاء سياسات أدت إلى معاناة واسعة النطاق بين السكان المدنيين الألمان، حيث أدى الطرد القسري لملايين الألمان من الأراضي التي ضمتها بولندا وتشيكوسلوفاكيا إلى مأساة إنسانية هائلة، حيث اقتلعت عائلات من منازلها وأجبرت على الفرار في ظل ظروف قاسية، كما حدث مع الأرمن والأكراد والشركس والفلسطينيين، مع الفارق طبعا، لكنها تظل مسألة انسانية عامة.
ومن الضروري أن ندرك أن هذه الفظائع والسياسات لم تكن حوادث معزولة، بل كانت جزءًا من أنماط أوسع من العنف والانتهاكات في أعقاب الحرب العالمية الثانية مباشرة. فبينما لعبت قوى الحلفاء دوراً حاسماً في هزيمة ألمانيا النازية وتحرير أوروبا ووضع حد للمحرقة، فإن تصرفاتها في فترة ما بعد الحرب تثير تساؤلات أخلاقية مهمة حول العدالة، والمساءلة، ومعاملة الأعداء المهزومين.
وفيما نتأمل تاريخ الحرب العالمية الثانية وتداعياته، فانه من الضروري أن نعترف بتعقيدات الماضي ولاانسانيته، وأن نسعى إلى فهم أكثر دقة للتكلفة البشرية للحرب ومعاناة المدنيين من دونالتمييز بينهم والمقاتلين، كما يحدث في غزة اليوم في أبشع صوره. ومن خلال مواجهة الحقائق التاريخية القاسية والتصدي للأسئلة الصعبة، يمكننا أن نعمل نحو مستقبل أكثر عدلا ورحمة وانسانية، حتى لا ننسى دروس التاريخ، وليتذكر الكيان الصهيوني أن جرائمه في فلسطين لن ينساها الشعب الفلسطيني، تماما كما لم ينس الحلفاء واليهود بعد انتهاء الحرب جرائم النازيين.