ما أعلى الضجيج وما اقل الفاعلية ، نفتقد مع فقد الهدوء إلى متانة الفرد والمجتمع ، وتعبث بنا الصيحات والصرخات البعيدة عن الصواب ، ويعبث بنا الفارغون ويحملوننا بعيدا إلى مناطق مشبوهة لا تنبت زرعا ولا تؤتي أكلا ، في وقت يجب أن نلتف حول من نرى فيه الحكمة والفطنة والدراية والخبرة والعلم والقدرة على تحديد الخلل والخروج من هذا الوضع الراهن ليس للوطن فقط بل للأمة .
تتعدد وسائل التعبير وترتقي مع ثقل الأحداث ، فما كان الإضراب الذي حدث سيأخذ هذا الزخم لولا أن الحدث جلل والخطب عظيم ، نعم الإضراب هو تعطيل للمصلحة الخاصة والعامة وقد يحدث أثرا كبيرا إيجابيا أو سلبيا بحسب الحدث والإدارة له .
ونتذكر هنا إضراب الستة وثلاثين حيث دخلت القوى الفلسطينينة جميعها في إضراب مفتوح عطل مصالح الإحتلال البريطاني وأدخلهم في حسابات مفتوحة وغاية في الصعوبة ، وهنا إضطرت قوى الإستعمار البريطاني أن تستعين بالقيادات العربية من الإصدقاء المقربين لإنهاء الإضراب .
وكما حدث في الثورة أيضا فقد تدخل الملك عبد العزيز بن سعود وأرسل الأمير فيصل ليقنع الفلسطينين بعد أن طلبت منه قوى الإستعمار البريطاني التدخل ، بأن الزعماء والحكام العرب مستعدون لضمان الحق الفلسطيني عند الصديقة بريطانيا .
وأن بريطانيا سـتأخذ الخطوات اللازمة لضمان حقوق الشعب الفلسطيني ، ولكن بعد ما أنتهى الإضراب أتضح أن بريطانيا لم يكن لديها أي نية لضمان هذا الحق ، وهي غير مستعدة لبذل أي خطوة في هذا الإتجاه .
بل كانت كل الخطوات البريطانية هي في سبيل ضمان أمن وأمان وإعطاء إعتراف بدولة للجماعات الصهيونية والعصابات المتطرفة من الصه اينة التي سهلت دخولها إلى الأراض الفلسطينية في ظل الإحتلال البريطاني ، وإمدتهم بالسلاح والمال .
مع ما قام به الصه اينة في ذلك الوقت من تفجير لفندق الملك داوود ، مقر قيادة الإستعمار البريطاني وقتل مجموعة كبيرة من قيادات الإستعمار ، ومع ما قام به الصه اينة لاحقا من جرائم ضد القوى البريطانية المستعمرة الموجودة على أرض فلسطين ، كان هدف بريطانيا القضاء على أي صورة من صور المجتمع المدني الفلسطيني وتهيئة الجو للعصابات الصه يونية بتفريغ الأرض من القيادات المدنية ومن الثوار .
الإضراب نعم يؤثر على الحياة المدنية والتجارية للمواطنين وله أثار لا يمكن أن ننكرها ، ولكنه برأيي من أقوى الوسائل المدنية في التعبير ، أو التعبير السلبي حسب بعض الباحثين ، فأي أمة تملك قرارها ولديها القدرة على إتخاذ قرار إيقاف الحياة المدنية .
ستدخل أكبر الحكومات في حسابات لا يمكن تجاوزها ، وستخضع أكبر الحكومات لهذه الأمة بدون الدخول في فوضى ولا عصيان ولا خسائر بشرية ، نعم سيف الخسائر المادية سيكون كبيرا بل وبالغ الخطورة ، ولذلك تخشى جميع الحكومات من هذا القرار .
وتحاول جاهدة ان لا تصل الشعوب إلى مرحلة العصيان المدني ، ونعم لهذا العصيان أثار مدمرة على الدول ، ولذلك لا يجب اللجوء إلى هذا السلاح إلا في مراحل متأخرة جدا ، ويجب أن لا يكون مطية بأيد فئة هنا أو هناك تسعى لإخضاع الدول والحكومات لرغباتها الشخصية ، والتي قد لا تكون محقة أحيانا ، ولكن إذا أحسنت الشعوب إستخدامه فهو سلاح خطير .
أما المقاطعة فهي أقل ضررا على الشعب وأكثر تأثيرا في الفئة المستهدفة ،.
وعندما نتكلم اليوم عن هذا التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة والدول العظمى ضد هذا الجزء من الأرض ، وضد هذا الشعب الذي عانى الويلات والمجاعات والحروب والقتل والتشريد على يد بريطانيا ثم الولايات المتحدة ثم هذا التحالف الذي يشمل أيضا ألمانيا وفرنسا وكندا بشكل رئيسي وغيرهم .
فإن مقاطعة هذه الدول ليست خيارا بل هي واجب إنساني لكل من يرى في نفسه بقية من كرامه وإنسانية ، فهذه الدول تمارس ظلما علانيا وجرائم ضد الإنسانية ، وتتواطأ في سبيل قمع شعب هو صاحب الحق ويسعى للحرية ، وتقتل الأطفال والنساء والإبرياء والأطباء وكل شيء في سبيل قمع هذا الشعب ، وسلبه حريته وأرضه والإبقاء على هذا الإحتلال البغيض الذي لم يرحم أحدا .
ولولا دعم هذه الدول لما إستمرت هذه المعاناة إلى يومنا هذا .
ونعم تتأثر بالمقاطعة فئات محلية من عامل ومستورد وضريبة وخدمات وغيره ، ولكن في النهاية السوق يسعى للإتزان ، وستدخل هذه الفئات في حلقات أخرى من العملية الصناعية أو التجارية .
وعلى العكس تتعاظم القوة التجارية والصناعية المحلية وتنمو في ظل الطلب المتزايد عليها ، وتسعى لتصحيح مسارها وانتاجها بما يناسب السوق المحلي والعربي والعالمي ، وتصبح منافسة قوية نتيجة لإرتفاع الطلب وزيادة مداخليها وقدرتها المادية على التطور والتحسن .
ولذلك ارى لازما على كل عاقل أن يسعى وراء المنتج المحلي ، ويسعى وراء دعم الصناعة المحلية والتجارة المحلية ودعم تحسنها وزيادة عرضها ، لأن ذلك ينعكس أثره على الوطن عامة وليس على فئة محدودة .
للأسف تنقصنا الدراسات العميقة والإحصاءات الدقيقة والبعد الإستراتيجي والقومي والوطني في الحركة الفردية والجماعية ، ونقع ضحية للعاطفة التي تحدث أحيانا ضررا أكبر من النفع .
ولكن فقد هذا ألا يدفعنا للتفكير في تشكيل عقل جمعي بأي صورة كانت ، تحت مسمى جمعية أو مؤسسات أو حماية الوطن والمواطن والمستهلك سمي ما شئت ، ولكن وجود هذه الهيئات ضروري ، نحن نفتقد المؤسسية وروح العمل الوطني والجماعي ، نغرق في الفردية ونحرف التيار والمسار في سبيل مصالح شخصية أو جزئية .
خذ مثلا منتجات وطنية مثل زيت الزيتون والأجبان والمحاصيل الزراعية ، كل هذه تجد رعاية خاصة في الدول الغربية ، بحيث تحفظ الحلقة من المزارع والمنتج والسوق والمواطن والبضاعة المصدرة بختم ومؤسسات ونقابات ومحاسبة ورعاية وتطوير وتسويق ، وكذا تحظى الصناعات الوطنية برعاية مشابهة ، ويحصل المواطن على مؤسسات تقوم بالبحث والدراسة والمقارنة والتحليل والتصنيف والرقابة والمنع والرعاية .
هل نفتقد الوطنية ام الحس الوطني ، والشعور بالأمة سعيا لتحقيق الرفعة للجميع ؟