علي الزعتري يكتب.. الخدمات لها أثمان

نبض البلد -
نبض البلد -  

الحكومة، أي حكومة تقريباً بهذا العالم، تحتكر خدمات المياه والصرف الصحي والكهرباء وهي التي تقرر أثمان هذه الخدمات علي المستهلك. تأخذ الحكومة علي محمل الجد قدرات المستهلك و لذلك ببلادنا تدخلت فحملت عن المستهلك نسبةً من هذه الأثمان تسميها دعماً. و الدعم يستفيد منه كل مستهلك، بسيطاً أو ثريَّ الحال، مواطناً و غير مواطن. و هذه خدماتٌ لا تستطيع غير حكومة القيام بأعبائها مع وجود معادلة في بعض البلدان مثلما عندنا بين قطاعٍ خاص و الحكومة لتوزيع الجهود، لكن المصدرَ الأساسي يبقى هو الحكومة التي بالقانون تملك موارد المياه، و بنية خدمات الصرف الصحي، والبنية الهيكلية الضخمة اللازمة للتوليد الكهربائي و نقلهِ للتوزيع. لكن الإحتكار للسلعة من هذه الأنواع و غيرها لا يعني رفع الأثمان من دون تصورٍ للاستهلاك لأن محتكر السلعة أو معظم بدائلها يريدُ بيعها لا كسادها فيوازن ما بين الكلفة عليه و التي سيبيع بها للمستهلك الراغب بهذه السلعة، و الذي يستطيع الامتناع عن ابتياعها أو التفتيش عن بديلٍ لها. و للأسف أن هذا المبدأ لا يسري علي الماء و الكهرباء لأغلب المستهلكين لأن اعتمادهم شبه كلي على خدماتٍ لا تملكها إلا الحكومة. و مهما قالت الحكومة عن الدعم و قيمتهِ و عن نوايا إبقاءهِ أو  إلغاءهِ فإنَّ المستهلك يبقى متحسباً من خدعةٍ ما. يتفاقمُ هذا الإحساس مع يقينِ المستهلك أنه لا يملكُ بديلاً و هو يرى أنه يسدد فواتيراً تزيدُ في رأيهِ قيمتها عن المنطقي. والردُّ جاهزٌ من المصدر الحكومي من أنها خدماتٌ ذات تكاليفَ عالية في الاستدامة و الإنتاج و التوزيع و أن الدعم لا يمكن لهُ أن يستمر بوجود الضغوط المالية المختلفة علي الحكومة و لذلك لا بد من إعادة موازنة الأثمان و النتيجة الحتمية هي رفع الثمن علي المستهلك.

 

حتى لو كنا نملك أنهاراً و مياهً جوفيةً و نفطاً و غازاً فإن تكلفة الإنتاج و التوزيع مرتبطةً بموارد ناضبةً مع الوقت و باستهلاكٍ يتزايد مع زيادة السكان مما يرفع الطلب عليها و يتطلب ازدياداً في الاستثمار بقطاعاتها. ونحن لسنا كذلك. كما أن الدول لا تقيس أعمارها بعشرات بل بمئات السنين و اذلك تنظر للموارد نظرةً فيها حذر إن لم نقل تقنينٌ مطلوب. و عليهِ بما أننا لا نملك الموارد بوفرة فإنَّ اعتمادنا هو على ما نستورد من نفطٍ و غاز و ما نستطيع استخراجه أو استجلابه من مياه.  و ما يصلنا من هبات و قروض بأنواعها لتطوير هذا و ذاك من قطاعاتٍ حيوية. و كذلك على أنماط الاستهلاك الرائجة بيننا. و على العلاقات القائمة أو المستقبلية مع من حولنا، شقيقاً أم شقياًّ.

 

لنبدأ بالنقطة الأخيرة، ففي العلاقات لا يوجد كلمةَ "مجاني" فإذا أردنا نفطاً و غازاً و مياهاً ممن حولنا فالأثمان نقدية و سياسية و لا نملك إلا دفعها. قد نغضب و نقاطع ونسخط لكننا في بدايةِ اليوم و نهايتهِ نستهلك لعمل فنجان القهوة وقوداً و ماءً يصلان لبيوتنا بالعلاقات الشقيقة و الشقية! ثم النقطةَ التي قبلها، أنماط الاستهلاك. فليقلْ لنا من يستطيع الاستغناء أو الترشيد بمجتمعٍ ينشأُ علي الاستهلاك و مقولة "كلما اشتهيتَ اشتريت"؟ ليس انتقاداً لكننا هكذا، نريد أن نعيشَ، و تعودنا أن نعيش بوفرةٍ، ولو نسبية بين الطبقات، لكنها وفرةً تجعلنا نتمتع بماءٍ و كهرباءٍ دون عناء أو انقطاع. من عاشَ ببلادٍ مُبتليةً بالشحِّ في الماء النظيف و الكهرباء و الوقود يعرف تمام المعرفة كيف الحياةُ تنتقل من استقرارٍ لقلق. و نحن لا نعيش هذه الظروف، و أحببتَ ذلك أم لا، فهذا بفضلِ العلاقات والهبات والقروض. إن لم تُردْ هذه فستنتقل لمعيشةٍ فيها الكثير من الصعوبات.

 

المواطن المستهلك يجب أن يفهم هذه المعادلات الصعبة إن أرادَ أن لا يتدهورَ نظامه الاستهلاكي. لكنه يجب أن يتلقى حزمةً من الخدمات الكًلِّية الممتازة التي تبرر له دفع أثمانٍ عالية لهذه الخدمات و اضطرارنا كدولة أن نخوض غمار علاقاتٍ ليست هي التي نريد لو كنا بموقعٍ أفضل. والحقيقة أن المواطن "مدووش" بتصريحاتٍ متضاربةٍ من الحكومة و من الخبراء خارج الحكومة، و بعضهم كان داخلها، و من تصريحاتٍ تصدرُ عن جهاتٍ مانحة. هل نملك ثرواتٍ لا نعلنها أم لا نستطيع استخراجها أم ممنوعٌ علينا استغلالها أم أنها غير موجودة؟ هل الهدر هو المسبب الرئيسي و بالتالي المحفز لقلة المعروض وارتفاع الأثمان؟ هل هو الاستهلاك الجائر؟ و قد نسطرُ عشرات الأسئلة المماثلة و كلها تحتاج لإجاباتٍ، ليست فقط مقنعة، و لكن متكررة و متسقة مع المنطق. إذاً هناك كَفَتيِّنِ. الأولى هي أن نفهمَ كمستهلكين مواطنين حقيقةً نعيشها و نتعايش معها إلى أن يأتينا الأفضل. والثانية هي أن تتكافئ التضحيات علي مستوى الدولة و الحكومة و الشعب بأن تكون الخدمات الحكومية المقدمة علي مستوىً عالٍ و يقدرها المستهلك المواطن.  من الصعبِ مثلاً استيفاء رسوم لخدمات الصرف الصحي دون وجوده!

 

لن يتوقف الاستهجان و لا الإحساس بالغبن، لكن الملاحظ أن المستهلك يناقلُ بين مصاريفه ليستمر في الاستهلاك كلما ارتفعت وتيرة الحديث عن رفع الأثمان و هذا مرَّدُهُ اعتمادهُ علي سلعةً لا بديل لها.  قد يلجأ للترشيد و هو مطلوبٌ في كل الأحوال غير أن حواراً واضحاً يبقى مطلوباً و حلولاً شموايةً تبقى مطلوبة و استثماراً في فهم الواقع يبقى ضرورةً. و كذلك بحثاً عن البدائل المستدامة. 

 

علي الزعتري

الأردن

مارس ٢٠٢٣