علي الزعتري يكتب.. الوحش الكامن

نبض البلد -
نبض البلد -

كنتُ أعمل بإحدى الدول العربية عندما حلَّ شهر رمضان الكريم و تحولت الحياة المكتبية الحكومية من النهار إلى الليل حتى أنني دُعيتُ لاجتماعاتٍ في منتصف الليل ليتبعها السحور! و اعتذرتُ عنها. لكن الذي رسخَ في ذاكرتي هو التحول، و بكثرةٍ، للغضبِ الشديد و اشتعالِ المشاحنات و اللكمات في الشارع، بسببِ الصيام! وقتها عَللَّوا لي هذا التحول بالنزقِ المصاحب للحرمان من السجائر و القهوة مما يؤدي للنرفزة و العراك. بدولةٍ اُخرى، من دون صيام، لاحظتُ انتقال الناس للعداءِ و الاعتداءِ بسبب تخَيُلهم لنظرةٍ لم ترُقْ لهم أو مُضايقةً لحظيةً بشارع. تندلعُ بعدها معركة دونها داحس و الغبراء. في عَمَّان رأيتُ معركةً أُستِدْعِيَ لها القنوات و اللكمات و منبوذ الكلمات بسبب وقفةٍ لسيارة لم تَرُقْ لأحدهم. لاحظتُ في أغلب البلدان العربية التي مكثتُ فيها حِدَّةَ انتقال المرء من مُسايرٍ لِمُشاحنٍ و مُعارِكٍ من دون سببٍ يستحق. و الجهر ببذيء السباب. ولكي لا أظلمُ العرب، فالغربُ لديهِ مثالبَهُ و إن خلال عملي و معيشتي هناك لم أرَ العنفَ إلا نادراً و عبر الشاشات. عندنا، أراهُ تقريباً كل يوم. و لا فَرْقَ في هذا بين الرجل والمرأة من حيث التعبير عن الغليان الداخلي. 

الوحشُ الكامنُ فينا ينتظرُ علي أَحَرِّ مِن الجمر لينفلتَ و يفترسَ. و علي ما قد يكون توافهِ الأسباب. لا تعلمَ ما الذي سوف يقلبُ إنساناً سَوَيِّاً في المظهر لِكاسرٍ في لحظات فلا يرى أمام عينيهِ سوى الحاجةَ لتفريغِ الغضب علي رأسِ ما يعتبرهُ غريماً. و المسرحُ المعتاد هو الشارع كبيراً عريضاً أم ضئيلاً ضيقاً كان. أنظُرْ بمرآة السيارة خلفك فلا تلحظَ تغييراً ثم خُذ لمحةً ثانيةً لترى وحشاً يطاردك و بعينين متقدتينِ تومضانِ غضباً. ليسَ بمقدورك الهرب لليمين فإذا هوَ خلفكَ يكادُ يلتصق بك. لا ترى وجهاً فالزجاج معتم ثم تَنْسَلَ لليمين عنه و يتجاوزكَ لكنهُ لا يتركك. فجأةً تراهُ أمامك يُشعلَ أضواء المكابح كأنه يقولُ لك اضربني! و قد يقفُ فعلاً ليؤدبكَ علي تحديه و قد ينالكَ مسَّبَةً عبر نافذة أو إشارةً نابية. 

ثم تتفاجئ بكلمات المجاملة التي تنطلق من الأفواه. "حبيبي" و "خليها علينا" و "عشان خاطرك بس" و هي عكس الحقيقة بأغلبِ الأحيان. أنت الحبيب طالما لا يوجد شرارة أو همسة خلاف. و "خليها علينا" لا تنطلي علي أحد. تخيل أن توافق أن تخليها عليه؟ و خاطري الذي هو من شأنهِ هو الخاطر المتكرر لكل من يلقاه. لا معانٍ سامية أو صادقة في هذه التعابير التسويقية. و يُثيرُ الانزعاجَ حقاً أن تسمع أحدهم يسألكَ أو يُفضي لك "ما بدي أغش وأكذب عليك" و هو يفاوضك لتصليحِ خرابٍ ما وكأن القاعدة هي الغش و الكذب و الصدق هو الاستثناء. تعابيرٌ امتزجت بالشخصية اليومية تُحيلُ الحياةَ لنفاقٍ من جهة و لمعركةٍ من جهةٍ. و لو اعترضتَ علي حاجةٍ فسيتحول النفاق فوراً لشيئٍ من الأخلاق لئيم. 

لا تخلو الحياة من الخير و لا من الخَيِّرين و لا من مِسْكِ الكلام و عَنبرِ الأخلاق لكن ندرتهم باتت ملموسةً و تَتَبُعَهمْ شاقٌ و متعبْ و الاستئناس بنبراسهم لا يطول. حتى سكينةَ المسجد تقطعها المحادثات الجانبية و رنَّاتُ الهواتف. ما هو الإيمان الملتزم الذي يجعلَ مُصلياًّ يأتي للصلاة بملابس النوم، أو يعطي ظهره للمنبر مستنداً إلى حائط و مادَّاً رجليه بوجه غيره أو يقفل الطريق علي السيارات؟ و إن اعترضتَ فسينابكَ من التقريع ما لا ترضاه. 

هناكُ فعلاً وحشٌ كامنٌ فينا و كأننا في حالةٍ من التنويم النفسي الذي يغطي حالةَ الغضب و ينفجر دون سابق إنذار. في الظاهرِ أناسٌ وبالباطن اشتعالٌ هادرٌ. هل هي التربية أم صعوبة الحياة و هل لا تنفع المواعظ و الخطب و الدعوات؟ لا أدري ما هو المطلوب لتطويق هذا الوضع و تصحيحه لكن الحياةَ مُرهقةً بطيبةِ القلب و عذابٌ باستيعاب المكر و الغضب و اللامبالاة و النفاق. 

قد يُقالَ أن التقييم هذا ليس صحيحاً و أن السلبيات استثناء لا قاعدة. لكنها استثناءاتٌ متكررةٌ وعديدة فتجعلها ظاهرةً من غير عناء. و هي بحاجة لمن يعيدها استثناءً. 

علي الزعتري
الأردن
مارس ٢٠٢٣