غادرت الأرض للمرة الأولى عام 2007.. كيف تستطيع “دببة الماء” العيش في الفضاء؟

نبض البلد -
 

ليست من أروع المخلوقات على سطح الأرض فحسب، بل وعلى سطح القمر أيضاً.. سنحدثكم اليوم عن رحلة "دببة الماء" أو بطيئات الخطو إلى الفضاء الخارجي، ونستعرض عليكم أبرز مميزات وأسرار هذه المخلوقات الغريبة.

 

دببة الماء على سطح القمر

في عام 2019 صعد مسبارٌ فضائي يُدعى "بيريشيت"، إلى سطح القمر. كانت مهمة هذا المسبار استثنائية وتمثلت بنثر آلاف من "بطيئات الخطو" أو دببة الماء المجففة التي حملها العلماء معهم داخل المسبار (مع بعض عينات الحمض النووي البشري أيضاً).

 

لكن من هم دببة الماء وماذا نعني أنهم كانوا في الحالة المجففة؟

 

على الرغم من أن اسمها قد يوحي بأنها كبيرة الحجم، فإن دببة الماء كائنات شبه مجهرية بطيئة المشية، غالباً ما تُسمى أيضاً بالخنازير الطحلبية، وهي حيوانات مائية متناهية في الصغر ذات أجسام ممتلئة ومجزأة ورؤوس مسطحة.

 

وقد كانت تلك الدببة في حالتها "الخابية" عندما نثرها العلماء على سطح القمر، وهي حالة سبات تلتف خلالها الدببة حول نفسها في شكل كرةٍ دقيقة، وتطرد غالبية المحتوى المائي من أجسادها، وتخفض معدل تمثيلها الغذائي حتى تعود إلى بيئةٍ جديدة مناسبة لاستكمال الحياة.

 

وتستطيع بطيئات الخطو العيش في هذه الحالة لعقود. كما تُعتبر شديدة الصلابة وقادرةً على النجاة في أقسى البيئات الممكنة، بدايةً بدرجات الحرارة الأقل من الصفر ووصولاً إلى حوادث التحطم على سطح القمر بالطبع.

 

 

من قمم الجبال إلى أعماق البحار

تُعَدُّ بطيئات الخطو من الحيوانات المجهرية ذات الثمانية قوائم، وتتميز بسلوكٍ عجيب يُشبه المخلوقات الفضائية. وقدرتها على العيش في الفضاء ليست السمة الوحيدة المميزة لها.

 

إذ قال ويليام ميلر، باحث بطيئات الخطو البارز في جامعة بيكر، إن هذه الكائنات تنتشر حولنا بوفرةٍ ملحوظة. وأوضح: "يمكننا العثور على مئات الأنواع منها في القارات السبع، وفي كل مكان بدايةً بقمم الجبال ووصولاً إلى أعماق البحار. وتعيش العديد من أنواع بطيئات الخطو في الماء، لكنها تستطيع الوجود في أي مكانٍ على اليابسة أيضاً بشرط أن يحتوي على الطحالب أو الأشنيات".

 

أول مرة تغادر فيها دببة الماء الأرض

في عام 2007، اكتشف العلماء أن هذه المخلوقات المجهرية تستطيع النجاة لفترةٍ مطولة في فراغ الفضاء الخارجي البارد والمشع.

 

حيث أرسل فريق باحثين أوروبيين مجموعةً من بطيئات الخطو الحية إلى مدار الأرض، لتوضع على السطح الخارجي للمركبة فوتون-إم3 لمدة 10 أيام. وبعد إعادة دببة الماء إلى الأرض، اكتشف العلماء أن 68% من هذه الكائنات نجت من تلك المحنة.

 

وتتمتع بطيئات الخطو بقدرةٍ فريدة على النجاة في الفضاء، لكن ميلر يؤمن بعدم وجود سبب للاقتناع بأنها تطورت لذلك الغرض، أو أنها مخلوقات من خارج كوكب الأرض في الأصل. بل يرى أن قدرة بطيئات الخطو على النجاة في الفضاء هي نتاج رد الفعل الغريب الذي طورته من أجل التغلب على مشكلة تهدد الحياة في كوكب الأرض. وأوضح أن هذه المشكلة هي نقص المياه.

 

ويمكن العثور على بطيئات الخطو التي تجول البرية في أكثر الأماكن جفافاً على الأرض. إذ يقول ميلر: "حصلت على عينات حية لبطيئات الخطو من تحت صخرة في صحراء سيناء، داخل منطقةٍ لم تشهد أي أمطار منذ 25 عاماً". ومع ذلك، تُعتبر هذه الكائنات مائيةً من الناحية الفنية. إذ تحتاج لطبقةٍ رقيقة من الماء حتى تتمكن من فعل أي شيء، وضمن ذلك الأكل والتكاثر والتنقل.

 

تستطيع إيقاف ساعتها البيولوجية

طوّرت بطيئات الخطو التي تعيش في البر حلاً عجيباً للنجاة في حالات الجفاف. إذ تجف تلك الكائنات عند جفاف بيئتها المحيطة. وتدخل بطيئات الخطو عندها في حالةٍ تُسمى التجفف، حيث تنكمش على نفسها، وتتخلص من المحتوى المائي في جسمها محتفظةً بنحو 3% منه فقط، وتُبطئ معدل التمثيل الغذائي داخلها إلى أقل من 0.01% من سرعته الطبيعية. وتُعرف هذه الحالة في عالم التمثيل الغذائي باسم حالة السبات، أو الحيوية الخفية. وتتماسك بطيئات الخطو في هذه الحالة ببساطة دون أن تفعل شيئاً، حتى تغمرها المياه مرةً أخرى. وبمجرد أن يحدث ذلك، يرتد الكائن عائداً إلى الحياة مباشرةً، ويواصل الحركة كأن شيئاً لم يكن.

 

ويكمن الأمر الأكثر ادهاشاً هنا في أن بطيئات الخطو تستطيع البقاء في هذه الحالة العجيبة لأكثر من عقدٍ كامل. وأفاد ميلر بأن بعض الباحثين لديهم قناعة بأن بعض أنواع بطيئات الخطو ربما تكون قادرةً على النجاة في حالة التجفف لما يصل إلى قرنٍ كامل. ومع ذلك، سنجد أن متوسط دورة حياة بطيء الخطو (الذي يتعرض للماء باستمرار) نادراً ما يتجاوز بضعة أشهر.

 

وعلى نحوٍ مماثل، تبيّن أن بطيئات الخطو تستطيع النجاة من التجميد، حيث كشفت دراسةٌ حديثة نشرتها دورية Journal of Zoology العلمية في سبتمبر/أيلول عام 2022، أن بطيئات الخطو التي تعرضت لدرجات حرارة متجمدة دخلت في حالة السبات، وعاشت فترة أطول من بطيئات الخطو التي لم تدخل في حالة السبات على مدار حياتها.

 

وشملت الدراسة 716 من كائنات بطيء الخطو، وتبيّن أن الكائنات التي جرى تجميدها بصفةٍ دورية عاشت حياةً أطول بنحو ضعفين من بقية الكائنات في مجموعة التجربة المنضبطة. وعاش أكبر بطيء خطو لنحو 169 يوماً، من بينها 94 يوماً في درجة حرارة الغرفة العادية. أما أكبر بطيء خطو في المجموعة المنضبطة التي ظلت حرارتها دافئة، فعاش لمدة 93 يوماً فقط.

 

وأوضح عالم الحيوان رالف شيل، أحد الباحثين بالدراسة، هذه النتائج قائلاً: "تتوقف الساعة البيولوجية خلال فترة الخمول، ولا تعاود العمل إلا بعد إعادة تنشيط الكائن الحي. ولهذا تستطيع بطيئات الخطو أن تعيش لسنوات وعقود، رغم أنها لا تعيش سوى بضعة أشهر فقط دون فترات الراحة".

 

 

تتحمل الفراغ التام والضغط الشديد

يعتبر بطيء الخطو قوياً بدرجةٍ لا تُصدق وهو في حالة التجفف. وأظهرت التجارب أن بطيئات الخطو تستطيع تحمل الفراغ التام والضغط الأشد بخمسة أضعاف من ضغط أعمق المحيطات. ولا تستطيع درجات الحرارة المرتفعة التي تصل إلى 148 درجة مئوية، أو المنخفضة التي تصل إلى -272 درجة مئوية (فوق "الصفر المطلق" بدرجةٍ واحدة)، أن تُنهي حياة هذا المخلوق، وفقاً لما ورد في مجلة Popular Mechanics الأمريكية.

 

لا تستطيع الأشعة الكونية التأثير في دببة الماء

يعتبر الفضاء مميتاً، وليس بسبب الفراغ فقط. إذ تُوجد خارج غلافنا الجوي الواقي إشعاعات قاتلة آتية من المستعرات الأعظمية البعيدة، وشمس مجرتنا، وغيرها من المصادر. وتأتي الإشعاعات الفضائية في صورة جزيئات مشحونة ضارة تستطيع التغلغل إلى أجسام الحيوانات، وتمزيق الجزيئات، وتدمير الحمض النووي بسرعةٍ يتعذر معها إصلاحه.

 

وهنا تبدو بطيئات الخطو كأنها مجهزةٌ للحياة في الفضاء على نحوٍ عجيب أيضاً. إذ أفاد بيتر غيدا، رئيس مختبر الأشعة الفضائية في ناسا، بأن أكبر مصدر قلق لرواد الفضاء (وبطيئات الخطو) يتمثل في مجموعة جزيئات تُدعى "مركبات الأوكسجين التفاعلية". إذ تنفذ الإشعاعات المؤينة إلى الجسم لتثقب الجزيئات التي تحتوي على الأوكسجين. ويمكن القول بعبارةٍ مبسطة، إن الجزيئات التي أصبحت مشعةً للتو ستبدأ التجول في أرجاء الجسم بعدها، مسببةً مختلف أشكال الضرر.

 

بينما تُفرز بطيئات الخطو في حالة التجفف كميةً غير اعتيادية من مضادات الأكسدة، التي تستطيع بكل فاعليةٍ أن تُحيِّد "مركبات الأوكسجين التفاعلية" المؤذية المتجولة. ويرجع الفضل لهذه الموهبة جزئياً في قدرة بطيئات الخطو على تحمل جرعات أعلى من الإشعاعات، وبدرجات نجاحٍ أكبر مما كان يظنه الباحثون.

 

وما يزال السبب وراء تطوير بطيئات الخطو لقدرة احتمال الجرعات الإشعاعية العالية غامضاً أيضاً. لكن ميلر أشار إلى نظريةٍ بارزة في هذا الصدد، وهي أن بطيئات الخطو ربما تطورت بشكلٍ يساعدها على النجاة عندما تجرفها الرياح داخل الغلاف الجوي للأرض، مما يفسر صلابتها وانتشارها في جميع أنحاء العالم.

 

هل تستطيع العيش في الكواكب الحارة؟

هناك شيءٌ واحد ليست بطيئات الخطو مجهزةً تماماً للتعامل معه، ألا وهو التعرض لدرجات الحرارة العالية لفترات مطولة من الوقت، وذلك وفقاً لدراسة نشرتها دورية Scientific Reports العلمية في يناير/كانون الثاني عام 2020. إذ كشفت الدراسة أن نقطة الضعف المرتبطة بالحرارة تؤثر حتى على بطيئات الخطو في حالتها الخابية الوقائية.

 

حيث درس الباحثون بطيئات الخطو من نوع الرامازوتيوس فاريورناتوس وهي في حالة السبات الخابية، ولاحظوا هلاك 50% من بطيئات الخطو التي تعرضت لدرجة حرارة تبلغ 82 درجة مئوية لمدة ساعة كاملة. بينما كانت الأرقام أسوأ مع بطيئات الخطو النشطة، أي التي لم تدخل في الحالة الخابية.

 

وأظهرت تجارب درجات الحرارة أن غالبية بطيئات الخطو تستطيع التكيف مع التقلبات الشديدة في درجات الحرارة بمرور الوقت. حيث إن بطيئات الخطو التي حصلت على ساعة واحدة للتأقلم مع الحرارة الشديدة سجّلت معدلات وفيات أعلى، مقارنةً ببطيئات الخطو التي حصلت على 24 ساعة كاملة.

 

دببة الماء تلهم البشر المسافرين إلى الفضاء

يقول لوكاس كاكماريك، خبير بطيئات الخطو، لصحيفة The Guardian البريطانية: "تستطيع بطيئات الخطو النجاة في مواجهة الضغوط المشابهة لتلك التي تنشأ عند اصطدام الكويكبات بالأرض، أي إن اصطداماً صغيراً كهذا لن يؤثر عليها".

 

ما الذي يعنيه ذلك بالنسبة لنا إذاً؟ إذا تمكّن البشر من تقليد عملية التجفف كما تفعل بطيئات الخطو، فسنتمكن من العيش لفترةٍ أطول من متوسط العمر المتوقع. حيث يقول كاكماريك إن بطيئات الخطو لا تتقدم في العمر عندما تدخل في حالة السبات. إذ تصبح خاملةً في عمر شهرٍ واحد، ويمكن أن تستيقظ بعدها بسنوات وهي ما تزال في العمر نفسه بيولوجياً.

 

وأوضح كاكماريك: "ربما نتمكن من استخدام هذه الطريقة في المستقبل عندما نخطط لبعثات متجهة إلى كواكب مختلفة، حيث سنحتاج لأن نكون صغاراً في العمر عندما نصل إليها".