نبض البلد -
استطاعت ماليزيا في ظل قيادات ناجعة وناجحة، وسياسات واعية مخطط لها، إلى بناء دولة حديثة خلال سنوات قليلة تضاهي مثيلاتها في الدول المتقدمة، واضِعتً أياها على سلم البلدان الصناعية الأولى في العالم، لتحقق بذلك تطوراً اقتصادياً كبيراً، واستقراراً سياسياً وتقدماً تكنولوجياً هائل.
عندما تسلم "محاضير محمد" رئاسة الوزراء عام 1981، أتخذ العديد من الخطوات التنموية والاصلاحية، أبرزها رؤية "2020"، التي رسمت خارطة الطريق لمستقبل البلاد للتخلص من التخلف والتبعية والفساد. ودمج البلاد في اقتصاديات العولمة مع الاحتفاظ بنهج الاقتصاد الوطني. بالأضافة إلى حل المشاكل والمعوقات التي تعاني منها البلاد وتحد من تقدمها.
وراء البُعد الإيديولوجي، الذي يرتبط بنقد لنظام حكم عالمي يسيطر عليه الغرب ويهيمن عليه، فإن المشروع الماليزي الواسع للتضامن الإسلامي جدير بالثناء في مقارباته الخارجية. فهو مَبني بشكل حقيقي وصادق على نهج يتسق مع مذهب "الحداثة ِالمحافِظة". علاوة على ذلك، اتخذت ماليزيا موقفاً حازماً وصارماً ضد الجماعات والأنشطة الإرهابية الإسلامية المتطرفة. في غضون ذلك، فقد شجعت باستمرار على تفسير المذاهب الإسلامية التي وصفت بأنها "عقلانية ومعتدلة"، وتمثل روح الأسلام. كما تتبنى موقفاً ايجابياً فيما يتعلق بالعديد من الجماعات التي تناضل من أجل السيادة لوحدة أراضيها. وأوضح مِثال على ذلك، هو دعمها للقضية الفلسطينية العادلة.
أما على صعيد الموقف الدبلوماسي، فإن ماليزيا أصبحت الآن أكثر ثباتًا من ذي قبل، متميزةً بإلهامات مختلفة، وهو سيناريو نابع من حقيقة أن البلاد قد أصبحت تُدرك نفسها تدريجياً على أنها "بطل في قضية العدالة والإنصاف والتوافق في الساحة الدولية"، وهذه حقيقة لا ينبغي إنكارها.
استثمرت ماليزيا بشكل كبير في قطاعات الخدمات عالية التنافسية والصناعات التحويلية ذات القيمة المُضَافة العالية لدعم النمو الاقتصادي. وقد أصبح تنفيذ هذا الخيار ممكناً بفضل الاستثمار المبكر الواسع النطاق في التعليم، والذي كان محدوداً في السابق فيما يتعلق بالخبرة المتخصصة على المستوى الجامعي. وبالتالي، لتسريع تحديث نظام التعليم العالي وزيادة أدائه من حيث اكتساب المعرفة والتدريب والبحث - الشروط اللازمة لاستدامة النموذج الإنتاجي للبلاد – اعتمدت على الانفتاح الدولي لهياكله المحلية. فإن هذا الانفتاح على العالم الخارجي يُشكل في المقام الأول استراتيجية سياسية تستفيد من الفرص والفوائد التي يقدمها تحرير اقتصاد المعرفة كجزء من العولمة.
النموذج الماليزي تجربة فريدة وغنية وملهمة، بالنسبة لأولئك الذين أرادوا دائمًا تجربة التغيير الدراماتيكي لبلدانهم. كما أن قدرة الماليزيين على تجسيد نموذج إسلامي أصيل للمجتمع يتألف من؛ شكل من أشكال التوفيق الفاضل بين الحداثة العالمية والإسلام هو بلا شك يدعو إلى الفخر لما يحمل في مضامينه رسائل التسامح والسلام.
*كاتب ومُحاضِر أردني في الشؤون التاريخية والدولية ومتابع للشأن الماليزي.