نبض البلد -
الحوار مع د . عمار حسن علي يشكل إشكالية عبر حوارات ممتدة تزدهر ثم تُستخدم الاستخدام الذي يُثير الأجوبة، التي تُغني القارئ من ثقافة واسعة٠
نشير هنا إلى أنّ قضية الأيديولوجيا التي يثيرها سواء في الأدب أو في السياسية، هي قضية عالمية يقول فيها خوف المجتمعات حول العالم تحلّ الأيديولوجيات محل المعرفة، وهي مشكلة كبيرة وكارثة، على البشرية معالجتها بعيدًا عن التصعب حتى لا تصبح المعالجة ايديولوجيا جديدة٠
حاوره:
سليم النجار.
س: إلى جانب أنك كتبت أكثر من لون أدبي: الرواية والقصة والقصيرة القصيرة جدًا والمسرح والشعر والنصوص السردية عابرة الأنواع، يظهر في التعريف بك أنك أيضًا ناقد أدبي وباحث في علم الاجتماع السياسي، فهل هناك علاقة بين الحقلين الاثنين الأخيرين في نظرك؟
ـ هناك علاقة عامة بين النقد الأدبي والاجتماع السياسي، تتمثل في أن السياسة، كفعل يبدأ بالهم اليومي لمواطن بسيط يقطن قرية صغيرة نائية وصولًا إلي التدابير المرتبطة بالسلطة العليا، تحيط بكل شيء، ولذا من الطبيعي أن تحضر في النصوص الأدبية بأشكال متدرجة ومختلفة، خافتة في رواية أو قصة حتى لو كانت تنتمي إلى السرديات النفسية والذاتية البحتة وأدب الرعب، أو ظاهرة كما في "الرواية السياسية"، وفق تصنيف متعارف عليه.
ويجب على التأويل في الحالة الأولى أن يمارس دوره في استخلاص تأثير السياق العام على النص، وهو موجود بالفعل، لأن أي نص لا يولد في فراغ، كما أن منتجه يتأثر بالقطع بالبيئة التي تحيط به، والسياسة متماهية فيها، ومؤثرة عليها. وفي الحالة الثانية برصد وجود السياسة بمختلف تجلياتها وحمولاتها في النص، بغض النظر عن مستوى وحجم وعلامات هذا الوجود.
وهناك علاقة خاصة بين النقد الأدبي والاجتماع السياسي نراها ماثلة للعيان في النقد الثقافي والدراسات الثقافية والنقد الأدبي المنتمي إلى النظرية البنيوية التوليدية. فالاجتماع والسياسة معا هما من الحقول المعرفية التي تهتم بها الدراسات الثقافية إلى جانب علوم النفس والتاريخ والإعلام واللغة والأنثربولوجيا.
في كل الأحوال فإن إلمام ناقد الأدب بأحوال المجتمع، ومعاني السياسة وتدابيرها مهم له، ليحيط بالنص من شتى جوانبه، غير مقتصر على تحليل شكله أو مواطن الجمال فيه.
س : هل معنى هذا أن النص أي كان تصنيفه أدبي أو فلسفي، أو اقتصادي أو فكري، هو بالأساس نص سياسي؟
ج: الأمر يكون واضحًا وسهلًا في حال الكتابات الاقتصادية، فلا اقتصاد دون سياسة، ولا سياسة دون اقتصاد، هناك تلازم بين الاثنين، والفصل بينهما خطأ وخطل وتضليل، ويتعجب المرء من الذين يتحدثون عن تنمية في ظل موت السياسة أو تهميشها أو الاستهانة بها، ومن الذين يعتقدون أن الممارسة السياسة أشبه بالألعاب الذهنية والحركية التي لا تؤدي وظيفة في تحسين أحوال الناس المادية.
أما في النص الفلسفي فالأمر يتوقف على القضية التي يتناولها، فإن كانت فلسفة غارقة في التجريد، كتلك التي تثير جدلًا حول أمور ذهنية بحتة، أو التي تهتم بالمسائل الكونية، فإن السياسة تغيب، خصوصًا في تفاصيلها الدقيقة. يختلف الأمر في الفلسفات التي تحط على الأرض، وتنشغل بالواقع، وعذابات الإنسان المتعددة في الحياة، وكذلك ما يغنيه ويرضيه ويسعده.
في العموم فإن الفلسفة اليوم مشتبكة مع الأفكار والتصرفات المتعلقة بالعيش، بدءًا من الفرد وحتى الدولة وصولًا إلى العالم، ولذا فحضور السياسة فيها واضح، سواء أتت على ذكرها صراحة أو مستها من بعيد، أو دارت حولها، أو نظرت إليها كعنصر من عناصر الفهم والتحليل والتأويل.
وفي عالم الأفكار، تظهر السياسة كمبحث مهم، فتنتج ما نسميه "الفكر السياسي"، وحتى لو كانت الفكرة حول ظاهرة اجتماعية أو نفسية أو لغوية فإن للسياسة بمعناها العام نصيب فيها، بغض النظر عن مستوى وحجم هذا النصيب.
يختلف الأمر بالنسبة للنص الأدبي، فهو نص فني أو جمالي بالدرجة الأساسية، حتى لو دار حول فكرة أو فعل سياسي. ومن هنا فإن حضور السياسة فيه يتوقف على نوعه، فنحن نعرف الرواية السياسية، والشعر السياسي، والمسرح، بطريقته المباشرة عالية النبرة، يمكنه أن يغرق في السياسة حتى أذنيه.
في كل الأحوال فإن السياسة تمثل بالنسبة لللأدب الحدث أو الواقعة، إذ لا يوجد حدث فني إنما حدث سياسي يعالج بطريقة فنية، كما قال نجيب محفوظ، والسياسة تحيط بالأديب لا يستطيع منها فكاكًا كما قالت الأمريكية توني موريسون الحائزة على جائزة نوبل في الآداب.
س: بالنسبة لك كدارس للعلوم السياسية وباحث في هذا المجال ومنخرط في الحياة العامة تؤدي دورك، كيف تحقق هذا المعيار الذي يفصل بين هذا المجال، وبين كتاباتك الروائية والقصصية والشعرية؟
ج: ابتداء، لا يخلو نص من سياسة، بدرجة ما، كما قلت، وبالنسبة لي من الطبيعي أن تتسرب السياسة إلى نصوصي، لكنها ليست واحدة، فقد كتبت الرواية الواقعية الاجتماعية العادية والفجة، والرواية التاريخية، والرواية التي يظهر فيها التصوف كممارسة دينية وفلسفة، والرواية النفسية. لكن أرى أحيانًا أن بعض النقاد يقرأون نصوصي قراءة بيوجرافية، حسب تعبير الروائي والناقد الإيطالي، إمبرتو إيكو، لأنهم يذهبون إلى تأويل النص وهم يعرفون اهتمام صاحبه ودوره.
أنا لا أمارس السياسة على أنني سياسي محترف، إنما مثقف منتمي أو عضوي، حسب اصطلاح الإيطالي أنطونيو جرامشي، وهناك من يضعونني في هذا المقام فعلًا. لكن حين أجلس للكتابة أعرف النوع الذي أكتبه، فالاهتمام السياسي، خصوصًا في علم الاجتماع السياسي، يظهر في مقالاتي ودراساتي وكتبي، أما النصوص الأدبية فلها شروطها التي أحرص عليها، حتى لو كتبت رواية ما، قد يصنفها النقاد على أنها سياسية.
س: عطفًا على كل هذا، هل تشكل الأيديولوجيا إشكالية في السرد أو الشعر؟
ج: هناك أدب أيديولوجي بالفعل، لكنه أدب مصاب بالعطب، يمتد إليه بؤس الأيديولوجيا وعبثها، وتحوله إلى أدب دعائي ومنحاز، وتنزع منه العمق الإنساني، لاسيما إن حولته إلى منشور أو بيان سياسي.
وعلينا هنا أن نفرق بين حالة الأيديولوجيات التي تصاغ بطريقة أدبية، من حيث حضور المجازات والصور والحوار إن كانت هناك حاجة إليه، وبين حالة الأدب الذي يكتب ليخدم توجهًا سياسيًا أو فكريًا معينًا. فالأولى يمكن تفهمها، لاسيما أن الأيديولوجيات تستعير دومًا من الأدب بعض سحره وجزالته، لتكون أكثر جاذبية فتمارس دورها في اصطياد الأتباع. أما الثانية فمرفوضة، وقد جنت على الأدب كثيرًا، والدليل الأهم الذي يقدم في هذه الناحية هو الأدب الروسي الذي كتب قبل الثورة البلشفية بواقعيته الاجتماعية وطرائقه الفنية البديعة، وبين ما أنتج بعدها من أدب بائس كان مجرد أحد أبواق الدعاية التي تخدم الشيوعية.
س: لكن الرواية ليست جماليات فقط بل هي فكرة أيضًا، أليس كذلك؟
ج ـ لا تخلو رواية من فكرة، بغض النظر عما إذا كانت جديدة أم متداولة، مهمة أو تافهة، عميقة أم سطحية، مبهرة أم باهتة، لكن هذه الفكرة تُصاغ بطريقة فنية، ونحن لا نقدر قيمة الرواية على فكرتها فقط، وإلا أمكن ضغطها في مقال واحد، إنما على أسلوبها الفني، وبنائها، ولغتها، وقدرة شخصياتها على التعبير عن أنفسها، كل حسب ثقافتها ومهمتها وتطلعاتها، وما فيها من خيال وتخييل، عملًا بأن الرواية ليس مجرد انعكاس للواقع، إنما صياغة هذا الواقع بطريقة مغايرة، تلتزم بشروط الفن، وتعبر عن إدراك الكاتب لهذا الواقع وموقفه منه.
في كل الأحوال فإن الرواية أكبر من أن تكون مجرد وسيلة لتقديم فكرة، فهذا يصلح للقصص الوعظية الدينية والتربوية، إنما هي تشكيل معقد من عناصر مختلقة وواقعية، وإعادة صياغة حدث جرى أو متوقع أو متخيل عبر لغة تراوح بين الشاعري والتقريري، بل هي إعادة مجريات الحياة وترتيبها على نحو مغاير، بالإضافة إليها والخصم منها، أو اختراع جديد فيها مثل "العمى" لساراماجو و"الخالدية" لمحمد البساطي، بحيث تجعلنا قادرين على أن نرى أنفسنا ومجتمعنا والعالم حولنا، والكون أحيانا، من زاوية غير معتادة.
س: أنت تقول هذا رغم أن الواقع الذي تستلهم منه معظم الروايات العربية، في نهاية المطاف يبدو أيديولوجيا؟
ج : لا أنكر أن واقعنا الاجتماعي لا يزال منجذبا إلى أيديولوجيات متصارعة، إسلامية ويسارية وليبرالية، مع تفاوت حجم وجود كل منها في حياتنا الراهنة. ولا أنكر أيضًا أن بعض الروايات وقع مبدعوها في هذا الفخ، ووقع النقاد أيضًا فيه. فرأينا من يصنف الأدب على أنه رجعي أ…