زهران ممداني وصحوة الضمير الأمريكي .

نبض البلد -
عماد عبدالقادر عمرو
رئيس مجلس محافظة العقبة سابقاً

في مشهدٍ سياسي غير مسبوق، انتخب سكان مدينة نيويورك زهران ممداني عمدةً للمدينة، ليصبح أول مسلم يتولى هذا المنصب في أكبر المدن الأمريكية وأكثرها تنوعاً. غير أن هذا الفوز لا يُعد حدثاً انتخابياً عادياً، بل يمثل تحولاً عميقاً في الوعي السياسي والاجتماعي للشارع الأمريكي، وإشارة واضحة إلى سقوط نهجٍ كاملٍ قام على العنصرية وتجارة الحروب وتغوّل اللوبي الصهيوني على القرار الأمريكي.

منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة عام 2023، بدأ الشارع الأمريكي، وخاصة في المدن الكبرى مثل نيويورك، يُظهر وعياً متزايداً بحقيقة ما يجري في الشرق الأوسط. 
الصور القادمة من غزة، وصوت العدالة الذي ارتفع في الجامعات والشوارع الأمريكية، شكّلت شرارة لتحولٍ عميقٍ في إدراك الأمريكيين لطبيعة الصراع ولمعنى الحرية والإنسانية. 
أدركت فئات واسعة من المجتمع الأمريكي أن دعم الاحتلال لا ينسجم مع القيم التي بُنيت عليها الولايات المتحدة، ومع كل مجزرة تُبث على الهواء كانت القناعات القديمة تتهاوى، وبدأ الخطاب الصهيوني يفقد سطوته وسط وعيٍ شعبي يتنامى يوماً بعد يوم.

كان الشباب في عمق المشهد الانتخابي لممداني نتيجة شعورهم بالظلم وفقدان الثقة في النظام السياسي التقليدي، وتأنيب الضمير تجاه الشعب الفلسطيني، وكذلك تجاه المهاجرين والأمريكيين من أصول مهاجرة. 
لقد شكّل تفاعلهم ونشاطهم قاعدة حقيقية لحركة انتخابية غير مسبوقة، حيث جسدوا صوت العدالة والمساواة، وأثبتوا أن جيلهم قادر على قلب الموازين وإعادة تشكيل الوعي الجمعي في المدن الكبرى.

فوز ممداني هو إعلان واضح عن نهاية نهج ترامب ومن سار على نهجه، ذلك النهج الذي مثّل عنواناً للعنصرية والانقسام والتمييز. 

ترامب لم يتورّع عن مهاجمة ممداني علناً بسبب أصله وخلفيته، مستخفا بترشيحه، ومُطلقاً تصريحات عدائية ضد كل من يسانده، حتى أنه وصف اليهود الذين يصوتون له بـ”الأغبياء”، وهدد بقطع المخصصات المالية عن مدينة نيويورك إذا فاز ممداني بمنصب العمدة. 
هذه التصريحات لم تضعف المرشح الشاب، بل زادت التفاف الناس حوله، لأنها كشفت حقيقة العقلية التي يحكم بها ترامب وإدارته، والتي تعتمد القوة الزائفة والتمييز العنصري كأساس للقرار السياسي. 

لقد أدرك الناخب الأمريكي أن الكراهية لم تعد برنامجاً سياسياً، وأن زمن استغلال الدين والأصل والعرق لتحقيق المكاسب قد انتهى.

لقد انتهى عهد "تجار السياسة” الذين بنوا نفوذهم على حساب معاناة الشعوب، وعلى تجارة الحروب والهيمنة الاقتصادية، بينما يُفتح اليوم بابٌ لنهجٍ جديد يقوم على العدالة الاجتماعية والإنسانية.

وجود زهران ممداني في موقع عمدة نيويورك لا يُمثّل فقط انتصاراً سياسياً، بل هو صوتٌ لكل متضررٍ من سياسات الظلم والتمييز التي يجسدها ترامب وإدارته الحالية. ففي المدينة التي لطالما كانت مركز القرار المالي والإعلامي الأمريكي، يبرز اليوم صوتٌ إنسانياً جديداً — صوتٌ يدافع عن العدالة لا عن المصالح، ويقف إلى جانب المظلوم لا إلى جانب القوة. إن وجود ممداني على رأس أكبر مدينة في الولايات المتحدة يُعد منبراً عالمياً لكل من عانى من سياسات وأزمات أشعلتها الإدارة الأمريكية، ولكل شعبٍ دفع ثمن طمع الشركات وتجار الحروب. ومع ذلك، يبرز البعد الأهم: فوز ممداني هو أيضاً صوتٌ للشعب الفلسطيني وقضيته العادلة أمام الرأي العام الأمريكي. فمواقفه الصريحة ضد الاحتلال، ودعمه لحقوق الإنسان في فلسطين، تمثل تحولاً تاريخياً في الخطاب السياسي الأمريكي، حيث بات الحديث عن فلسطين جزءاً من الضمير الجمعي الجديد داخل المجتمع الأمريكي، لا تهمة تُخيف ولا موقفاً يُقصي. لقد أصبح ممداني رمزاً لجيلٍ جديد من القادة الأمريكيين الذين لا يخافون من قول الحقيقة، والذين يؤمنون أن العدالة لا تُجزّأ، وأن الوقوف مع فلسطين هو امتداد طبيعي للوقوف مع كل إنسان مظلوم في أي مكانٍ من هذا العالم.

لطالما كانت نيويورك مركز الثقل السياسي والإعلامي للنفوذ الصهيوني في الولايات المتحدة، لكن هذا النفوذ بدأ يتراجع أمام صعود جيلٍ جديد من الأمريكيين الأحرار الذين لم يعودوا يقبلون بالتبعية العمياء لإسرائيل. 

تصريحات ممداني المؤيدة لحقوق الفلسطينيين لم تُضعف حملته، بل زادته قوة ومصداقية أمام ناخبين سئموا النفاق السياسي والتواطؤ مع الاحتلال. 

اليوم، من يقترب من إسرائيل أو يدافع عن سياساتها العنصرية يخسر الرهان الشعبي والسياسي، لأن ضمير أمريكا بدأ يتغيّر، ولأن الحقيقة لم تعد قابلة للإخفاء خلف الإعلام الموجَّه.

ممداني أعلن بوضوح أن إدارته ستضع الإنسان والعدالة الاجتماعية في صدارة الأولويات، دون تمييز بين أصلٍ أو دينٍ أو لون. 
إنه نهجٌ جديد يزيل الفوارق الطبقية، ويعيد الثقة بين الناس ومؤسسات الدولة، ويضع الناخب في قلب القرار. بهذا المعنى، فإن فوز ممداني هو بداية صفحة جديدة في التاريخ الأمريكي، صفحةٍ يتراجع فيها صوت الكراهية، ويعلو فيها صوت المساواة والإنسانية. 
وما جرى في نيويورك ليس حدثاً محلياً فحسب، بل رسالة إلى كل المدن الأمريكية بأن التغيير ممكن وأن وعي الناخب أقوى من المال السياسي والإعلام الموجَّه. لقد كسرت نيويورك الحاجز النفسي والسياسي وأثبتت أن الناخب الأمريكي قادر على أن يقول "لا” للعنصرية و”نعم” للعدالة، لتفتح صفحة جديدة تُدرّس في التاريخ السياسي الأمريكي لأنها أنهت حقبة الظلم والتبعية وفتحت الباب لعصرٍ جديد من الوعي والمسؤولية.

ومع ذلك، فإن معركة ممداني وتحول الوعي الجمعي للشعب الأمريكي لم تنته بعد. 
عليه أن يكون حذراً من محاولات إفشاله التي ستأتي من بقايا نهج ترامب وأدواته السياسية والإعلامية، التي لن تتقبل بسهولة فكرة أن مدينة نيويورك باتت رمزاً للمساواة والعدالة. 
إلا أن قوة الحق دائماً أقوى من صوت الكراهية، ومتى ما التزم ممداني بهذا النهج الإنساني الجامع، سيظل يمثل الأمل لكل من يسعى لعالمٍ أكثر عدلاً وإنسانية.

فوز زهران ممداني ليس فقط حدثاً انتخابياً، بل إعلان ميلاد مرحلة جديدة لأمريكا، مرحلةٍ تُسقط نهج ترامب واللوبي الصهيوني، وترفع راية القيم الإنسانية والعدالة. إنه انتصارٌ لصوت المظلومين في كل مكان، وانتصارٌ للقضية الفلسطينية التي وجدت أخيراً منبرها في قلب نيويورك. فمن هذه المدينة التي لا تنام، يبدأ الحلم الأمريكي الحقيقي من جديد — حلم المساواة، والكرامة، والضمير الحي.