نبض البلد - بقلم : عماد عبدالقادر عمرو
في الثاني من تشرين الثاني عام 1917، وجّه وزير الخارجية البريطاني آرثر جيمس بلفور رسالة إلى اللورد روتشيلد قال فيها:
«تسرّ حكومة صاحب الجلالة أن تنظر بعين العطف إلى إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يُفهم جليًا أنه لن يُؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، أو من الحقوق والوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر».
بهذه الكلمات القليلة، التي كتبتها يدٌ استعمارية على ورق بارد، فُتحت أبواب قرنٍ كاملٍ من المآسي. وعد بلفور لم يكن وعدًا سياسيًا عابرًا، بل صكًا استعمارياً منح ما لا تملكه بريطانيا لمن لا يستحق، وتجاهل وجود شعبٍ أصيلٍ يعيش على أرضه منذ آلاف السنين.
لقد كانت تلك الرسالة نقطة التحوّل التي غيّرت وجه المشرق، وأطلقت سلسلة من الأحداث التي مهدت لنكبة عام 1948 وما تبعها من تهجير واحتلال واستيطان، لتصبح مأساة الشعب الفلسطيني واحدة من أطول المآسي الإنسانية في التاريخ الحديث.
خلال فترة الانتداب البريطاني على فلسطين بين عامي 1920 و1948، انحرفت بريطانيا عن واجباتها الدولية ومسؤولياتها كقوة منتدبة، ففتحت أبواب الهجرة اليهودية المنظمة، وسلّحت العصابات الصهيونية التي مارست القتل والتهجير، وقمعت الثورات الفلسطينية التي طالبت بالحرية، ثم انسحبت تاركة وراءها جريمة استعمارية مكتملة الأركان.
لقد تحوّل الانتداب إلى نظامٍ استيطانيٍ مباشر انتهك مبدأ تقرير المصير وكرّس واقعًا من الظلم التاريخي والاقتلاع القسري. وهكذا لم تكن بريطانيا حَكمًا بين شعبين كما ادّعت، بل كانت الطرف الذي صنع المعادلة الظالمة وأشرف على تنفيذها حتى آخر لحظة من وجودها في الأرض المحتلة.
ورغم مرور أكثر من قرن على صدور الوعد، فإن الجريمة لا تزال قائمة بآثارها. فملايين الفلسطينيين يعيشون اللجوء والحرمان من العودة، وأرضهم ما تزال تُصادر ويُعاد تشكيلها قسرًا في انتهاك دائم للعدالة والحق الإنساني.
ومن منظور القانون الدولي، فإن الجرائم التي تستمر آثارها لا تسقط بالتقادم، ما يعني أن بريطانيا ما زالت تتحمل مسؤولية قانونية وأخلاقية عن الوعد وتنفيذه، خاصة وأنها لم تعترف حتى اليوم بما ارتكبته من خطأ تاريخي بحق الشعب الفلسطيني، ولم تبادر إلى أي خطوة رمزية أو عملية لرد الاعتبار أو تقديم الاعتذار.
وفي السنوات الأخيرة، بدأت إرهاصات قانونية وسياسية لمحاولة تحويل هذا الملف من الذاكرة إلى ساحات العدالة.
ففي عام 2016 أعلنت السلطة الفلسطينية نيتها مقاضاة بريطانيا رسميًا على خلفية وعد بلفور، وفي عام 2020 تقدمت منظمات ومحامون فلسطينيون بشكوى أمام محكمة في نابلس ضد الحكومة البريطانية، معتبرين أن الوعد كان الأساس القانوني لنكبة الشعب الفلسطيني.
كما تم عام 2021 التعاقد مع مكتب محاماة بريطاني لمتابعة دعوى في لندن تطالب المملكة المتحدة بالاعتراف بمسؤوليتها وتعويض المتضررين.
ورغم أن هذه المحاولات ما زالت رمزية ولم تصل إلى حكم قضائي، إلا أنها تعبّر عن يقظة قانونية جديدة ترفض أن يبقى وعد بلفور خارج دائرة المساءلة، وتؤكد أن العدالة التاريخية لا تسقط بقوة المستعمر أو بصمت الزمن.
إن رفع دعوى جماعية باسم كل الفلسطينيين حول العالم ليس خطوة سياسية فحسب، بل فعل عدالة تاريخية يهدف إلى تحميل بريطانيا تبعات ما زرعته من مأساة لم تنتهِ فصولها. فالوعد الذي صدر باسمها أدّى إلى اقتلاع شعبٍ كامل من أرضه، وما زالت نتائجه تتجسد في كل لاجئ ومدينة محتلة وحياة مهددة.
ولعل جوهر هذه الدعوى لا يقوم على المطالبة بتعويض مالي فحسب، بل على استعادة الاعتراف: الاعتراف بالظلم، وبالهوية المسلوبة، وبحق الشعب الفلسطيني في العودة والكرامة والسيادة على أرضه.
فالعدالة هنا ليست محكمةً تنطق بحكم، بل ضميرًا دوليًا يعترف بخطيئة ارتكبتها الإمبراطورية التي رسمت حدود المأساة.
لقد آن الأوان لبريطانيا أن تواجه تاريخها بشجاعة، كما فعلت في ملفات استعمارية أخرى، وأن تعترف بأن وعد بلفور كان جريمة ضد الإنسانية لا إنجازًا سياسيًا.
فالشعب الفلسطيني لا يطالب بفضلٍ أو منّة، بل بعدالةٍ مؤجلة. والسكوت البريطاني المستمر لا يمحو الجريمة، بل يضاعفها.
فالمسؤولية الأخلاقية لا تُقاس بمرور الزمن، بل بمدى استعداد الدولة للاعتراف بخطئها.
ومثلما اعتذرت بريطانيا لشعوبٍ أخرى عن جرائمها الاستعمارية في كينيا والهند وماليزيا، فإنها مطالبة اليوم بالاعتذار عن الجرح الأكبر الذي خلّفته في قلب الشرق، جرح فلسطين.
إن الحق الفلسطيني لا يسقط بالتقادم، لأن ما خُطف بالقوة لا يُنسى، وما كُتب بالظلم لا يُمحى إلا بالاعتراف.
وبعد مئة عام من الصمت والتجاهل، آن للعدالة أن تتكلم باسم الضحايا، وللتاريخ أن يكتب من جديد الحقيقة التي حاولت القوى الاستعمارية طمسها.
فالقضية الفلسطينية ليست نزاعًا حدوديًا ولا خلافًا سياسيًا، بل امتحانٌ للضمير الإنساني بأسره، اختبارٌ لقدرة العالم على تصحيح جريمة بدأت بوعد، وما زالت تُكتب بالدم حتى اليوم.