نبض البلد -
يشهد الشرق الأوسط حراكًا سياسيًا غير مسبوق مع تسارع الزيارات الأمريكية إلى الكيان الصهيوني، من نائب الرئيس فانس وكوشنر وويتيكوف، إلى قائد القيادة المركزية، وصولًا إلى زيارة مرتقبة لوزير الخارجية. هذا الحراك المكوكي لا يمكن قراءته كدعم بروتوكولي للحليف التقليدي، بل كتحرك استراتيجي تسعى واشنطن من خلاله إلى إدارة الصراع في غزة لا إنهائه، وضبط إيقاع الحرب بما يخدم مصالحها الأمنية والسياسية.
الولايات المتحدة تعلن التزامها بأمن الكيان المحتل و”حقه في الدفاع عن نفسه”، لكنها تدرك أن المعارك في غزة وصلت إلى مرحلة استنزاف لا يمكن حسمها عسكريًا بسهولة. لذلك تسعى إلى تحقيق توازن دقيق بين استمرار دعمها العسكري والسياسي وبين تجنب انفجار إقليمي يهدد مصالحها الواسعة. ومن هنا تأتي زيارات المسؤولين الأمريكيين المتتالية كمحاولات لإبقاء الحرب تحت السيطرة، وتقييد الاندفاع الميداني الصهيوني ضمن حدود مقبولة دوليًا وإنسانيًا.
لكن الهدف الأعمق لهذا الحراك هو التحضير لما يسمى في واشنطن بـ”اليوم التالي في غزة”. فالولايات المتحدة ترفض عودة حماس للحكم، لكنها في الوقت نفسه لا تقبل بفراغ إداري أو انفلات أمني في القطاع. لذلك تعمل على صياغة نموذج حكم انتقالي يجمع بين إشراف السلطة الفلسطينية أو أطراف عربية، وبرقابة دولية محدودة، بما يضمن استمرار الأمن للكيان الصهيوني وإقصاء حماس تدريجيًا من المشهد التنفيذي، من دون إحداث كارثة إنسانية أو فراغ إداري يؤجج الأزمة. هذا المشروع ما زال يواجه عقبات ميدانية وسياسية، لكنه يشكل محور التحرك الأمريكي في هذه المرحلة.
الكيان الصهيوني من جهته يعيش مأزقًا واضحًا: يريد القضاء على حماس لكنه يفتقر إلى رؤية سياسية لما بعد الحرب، ويخشى أن يتحول النصر العسكري إلى عبء دائم. لذلك يتجه نحو سياسة "الضغط المستمر دون الحسم”، أي استمرار العمليات المحدودة وتوسيع الضربات المركزة مع تجنب الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة طويلة الأمد، مستندًا في ذلك إلى الدعم الأمريكي طالما بقيت المعركة تحت سقف يمكن التحكم به.
من جانبها، تواجه حركة حماس خيارات ضيقة لكنها ما زالت تملك هامشًا للمناورة. فهي تسعى إلى الموازنة بين قبول التهدئة المؤقتة للحفاظ على حضورها السياسي، وبين الحفاظ على قدرتها العسكرية كوسيلة ضغط مستمرة. الهدف بالنسبة للحركة هو البقاء لاعبًا لا يمكن تجاوزه في أي ترتيبات سياسية مقبلة، حتى لو تراجعت ميدانيًا. كما تراهن على طول أمد الحرب في إنهاك العدو الصهيوني وإجباره على الدخول في تسوية تضمن لها دورًا في "اليوم التالي”، سواء بشكل مباشر أو عبر وسائط محلية.
الموضوع الآخر الحاسم هو سلاح حماس؛ هذه نقطة العقد. موقف كل طرف واضح ومختلف الجوهر: الولايات المتحدة تطالب بتقويض القدرات العسكرية للحركة وقطع سبل التموين والتصنيع للصواريخ والأنفاق والأنظمة القتالية الدقيقة، وتُفضّل حلًا يُبقي على عناصر مدنية تنظيمية دون أذرع قتالية فعّالة. الكيان الصهيوني يسعى عمليًا إلى نزع القدرة القتالية من حماس بالكامل كشرط لضمان عدم تكرار الهجمات، ويضع أولوية على تفكيك البنى اللوجستية والصناعية العسكرية داخل القطاع. حماس، من جهتها، تعتبر السلاح ورقة وجود أساسية ورفضًا لمصادرة حق المقاومة؛ لذلك تحاول الحفاظ على مخزون وقدرات تكتيكية ولو على مستوى قطاعي محدود، معتبرة أن التخلي عنه يعني تهميشها السياسي وإضعاف موقفها التفاوضي. هذه التباينات تجعل من قضية السلاح محورًا لا يقل أهمية عن مسألة الحكم نفسها.
ولا يُستبعد أن تمتد المداولات الأمريكية الصهيونية لتشمل ملفات إقليمية أوسع، وعلى رأسها ملف حزب الله وسلاحه في لبنان، والملف النووي الإيراني الذي يشكل تحديًا استراتيجيًا مزدوجًا. فبالنسبة لواشنطن، أي تهدئة شاملة في غزة لا يمكن أن تُفصل عن البيئة الأمنية شمالًا وعن طبيعة العلاقة مع طهران. الكيان الصهيوني يسعى لاستثمار الظرف الحالي للضغط على الولايات المتحدة نحو سياسة أكثر تشددًا مع إيران، وربما نحو طرح فكرة نزع سلاح حزب الله ضمن ترتيبات ما بعد الحرب كهدف مستقبلي طويل المدى. في المقابل، ينظر حزب الله وإيران إلى هذه الطروحات بوصفها محاولة لتثبيت معادلة إقليمية تميل لصالح الكيان المحتل، ويرون أن أي نزع للسلاح أو تقييد للقدرات الدفاعية هو خطوة نحو إخلال شامل بتوازن الردع القائم. هذه الملفات وإن لم تُعلن صراحة، تبقى حاضرة بقوة في خلفية المشهد، وتشكل الامتحان الحقيقي لأي تفاهم أمريكي صهيوني في المرحلة المقبلة.
في حال رأت واشنطن أن حماس لم تلتزم بخطة التهدئة، فهي لن تتدخل على نطاق واسع إلا إذا تعرّضت مصالح أمريكية مباشرة؛ الخيارات المتوقعة تتراوح بين منح الكيان المحتل تفويضًا أوسع لشن ضربات أكثر شمولًا داخل غزة، وتنفيذ عمليات محدودة لطائرات مسيّرة أو وحدات خاصة تحت شعار "مكافحة الإرهاب”، إلى جانب تسريع إجراءات الضغط السياسي والاقتصادي على الشبكات الداعمة للحركة.
في الخلاصة، تسعى الولايات المتحدة إلى إدارة حرب لا تريد لها أن تنتهي سريعًا بقدر ما تريد ضبط مظاهرها وصياغة اليوم التالي وفق مصالحها. الكيان الصهيوني يواصل حربه تحت سقف أمريكي محسوب، وحماس تحاول التحول إلى لاعب سياسي رغم الضغوط العسكرية. تبقى غزة محكاً لمدى قدرة واشنطن على ضبط أزمات المنطقة، حيث تُدار النار وفق إيقاع المصالح، وتُنطفئ وفق حسابات القرار.