حديث الروابدة الذي أزعج البعض

نبض البلد -

حاتم النعيمات

أثار حديث دولة عبد الرؤوف الروابدة عن التاريخ الأردني حفيظة البعض تحت عناوين عدة، فالبعض صاغ اعتراضه على أساس أن الحديث في التاريخ لا يسمن ولا يغني من جوع، والأصل الحديث عن مشاكل الأردن، والبعض الآخر رأى أن تناول الموروث الأردني يخلق جدلًا لا داع له!

الحديث في التاريخ جزء من طيف لتفاعلات الأردنيين مع واقعهم، والأردنيون بالذات مطالبون بتظهير تاريخهم أكثر من غيرهم وهم مدينون لوطنهم بذلك، إذ مارس هذا الشعب الزهد في هويته وكينونته منذ عقود لصالح خطابات فصائلية وقومية وإسلاموية، وظل صامتًا وروايات الزور تتطاير من فوق رؤوس أبنائه مراعاةً لقضايا "الأمة" التي كانت تَسنُّ سكاكينها عليه عند كل زلة.

ولأكون دقيقًا، فأنا لا أتحدث عن استيلاد تاريخ من العدم، فالتاريخ الأردني عظيم ومرصود بالآركيولوجيا وعُمر ما اكتشف منه لغاية اليوم آلاف السنين، لكني بالطبع أود التأكيد على أن هذا العنوان أصبح موضوع نزاع بين من يريدون استمرار الأردن وتقدمه، ومن يريدون "طحنه" لمشاريع عابرة للحدود، مثل ما يسمى بالخيار الأردني (حل مشكلة إسرائيل الديموغرافية على حساب الأردن) والذي تتبناه الحركة الصهيونية وتيارات متماهية معه سلوكًا وخطابًا وأدبيات.

لذلك تحول التاريخ إلى عنوان لتدعيم علاقة الأردنيين بوطنهم، وكأداة للدفاع عن هويتهم، وهم بالمناسبة، لا يملكون ترف المجاملة اليوم، لأن في الصراع "على الأردن" أساسه نفي جذوره والتقليل من تمايز شعبه عن بقية شعوب المنطقة ليصبح طيّعًا أمام أي تسويات ديموغرافية.

وفي خضم النقاش حول محاضرة الروابدة، يتلمس المتابع أن هناك مجموعة من الناشطين والكتاب لديهم واجب مقدس بتضليل الرأي العام على أساس أن الحديث في التاريخ الأردني والهوية يعطل الحديث في بقية مشاكل البلد، ولا أفهم ما هو التأصيل المنطقي لهذا الاستنتاج؟ ولم أجد سوى أن حديث رجل بحجم الروابدة أزعجهم لأنه سينتشر ويتغلغل في جميع طبقات المجتمع بشكل سريع.
بالمناسبة، ما قاله الروابدة بخصوص الأردن وأصول الأردنيين مثبت علميًا وعلى لسان الكثير من العلماء والباحثين وأهمهم الدكتور خزعل الماجدي في كتابه الشهير "ميثولوجيا الأردن"، والماجدي -لمن لا يعلم- يعتبر من علماء التاريخ الذين يعتمدون الدليل الحسي الملموس في تتبع الأحداث التاريخية. لذلك فإن آثار الأردن (الآركيولوجية) تقول بشكل حاسم أنه كان منبعًا للثقافات والبشر لا ممر أو مصب، فهنا أول استخدام للجبص في تماثيل عين غزال، وأول رغيف خبز، وعدد من أقدم الأنظمة السياسية "المستقرة" كالأدوميين والمؤابيين والعمونيين والأنباط، وهنا معظم مدن الديكابوليس -6 من 10 موجودة في الأردن- التي بنيت بسواعد أردنية تحت السلطة الرومانية، والحديث يطول في هذا المجال، والخلاصة أن التاريخ الأردني متصل ولم ينقطع، وأن هذا البلد كان وما يزال عامرًا بسكان أصليين هويتهم حادة وواضحة وضوح الشمس.
الواضح أن بعض الشخصيات التي لا تدرك تغيرات المنطقة الأخيرة، ترى أن الحراك الاجتماعي-السياسي الأردني الجارف لترسيخ الهوية الأردنية يهدد مصالحهم ومشاريعهم وأهمها تصفية القضية الفلسطينية على حساب الأردن، وما لا يريد هؤلاء استيعابه هو أن هذه الصحوة الأردنية تخضع لقوانين النمو الإجتماعي، وليست موسمية، والنمو الاجتماعي صيرورة لا يوقفها شيء مهما كان. هؤلاء أيضًا لا يفهمون أن روافع خطابهم قد تكسرت من خلال التغيُّرات الهائلة التي جرت في المنطقة، بالأخص خلال العامين الأخيرين.
لست خائفًا على هوية الأردن، ولست ممن يبالغون ويضخمون الأمور، لكني بكل تأكيد ممن يدركون عطش الأردنيين لسماع قصتهم التي تم كتمها، ولتحييد الذين يحاولون تسميم أي طرح نهضوي أمام أجيال جديدة ما زالت تتلمس تعريفها لذاتها لحمايتها من التشويش الذي تعرضت له أجيال سبقتهم.