كلٌّ يرى الناس بعين طبعه قراءة في عمق السلوك الإنساني

نبض البلد -

ولاء فخري العطابي 

من أصدق الأمثال الشعبية التي تُعبّر عن واقع البشر وطبيعة نظرتهم للحياة، قول العرب: "كلٌّ يرى الناس بعين طبعه” مثلٌ بسيط في لفظه لكنه عميق في معناه، يحمل في مضمونه تفسير للكثير من التصرفات والأحكام التي نسمعها من الناس كلّ يوم، ويكشف كيف أن الإنسان يرى الآخرين لا كما هم، بل كما هو في داخله.

فالكاذب – مثلًا – يظن أن الجميع يكذبون، لأنه اعتاد أن يتعامل بالريبة والمراوغة، فيقيس الناس على نفسه، وكذلك الخائن يشكّ في إخلاص الآخرين، لأن قلبه لا يعرف معنى الوفاء، أما الصادق الوفي فيمنح الثقة بسهولة، لأنه لا يتوقع من الناس إلا ما يفعله هو.

وفي الميدان العملي، نجد المدير الذي يُعامل موظفيه بعدل واحترام يرى فيهم روح الفريق والالتزام، فيدفعهم للعطاء والإنجاز، بينما المدير الذي تعوّد على التحكم والتسلّط، يظن أن الجميع يتربصون به أو يسعون لمصالحهم، فيبني قراراته على الخوف لا على الثقة.

وكذلك المسؤول، إن كان نزيهًا وشفافًا، رأى في موظفيه إخلاصًا وجدًّا، أما إن كان انتهازيًا أو باحثًا عن المصلحة الشخصية، فلن يرى في الآخرين إلا ما في نفسه من أطماع وشُبهات.

وفي البيئة التربوية، يتجلّى هذا المثل في تصرفات المعلمين والطلبة؛ فالمعلم الإيجابي يرى في طلابه طاقات تستحق الدعم، فيشجّعهم وينمّي فيهم روح الإبداع، أما المعلم الذي يحمل نظرة سوداء، فيرى الإهمال حتى في الاجتهاد والتقصير في كل محاولة، لأنه يُسقط تجاربه وخيباته على طلبته.

ولا يقتصر الأمر على بيئة العمل أو التعليم؛ ففي الحياة الاجتماعية نجد الأمثلة كثيرة، فالصديق الصادق يرى أصدقاءه إخوةً له، أما المنافق فيظن أن الصداقة مجرّد مصلحة مؤقتة، وفي الأسرة، الزوج الوفي يرى في زوجته شريكة عمر، بينما من اعتاد الخيانة، يملؤه الشك والريبة دون سبب، وأيضًا في علاقاتنا اليومية البسيطة، نلمس هذا المثل فيمن يُسيء الظنّ بالناس أو يفسّر أفعالهم بسوء، لأن عينه لا ترى إلا ما في قلبه.

هذا المثل الشعبي ليس مجرّد حكمة، بل هو مرآة للنفس الإنسانية، يدعونا إلى أن نُصلح ما في داخلنا قبل أن نحكم على من حولنا، وأن نتذكّر أن صفاء الرؤية يبدأ من صفاء القلب، فمن يرى الخير في الناس، إنما يرى انعكاس نقائه هو، ومن لا يرى سوى الشر، فلينظر أولًا إلى ما يسكُن داخله.

ولعلّ أجمل ختام لهذا المعنى قول النبيّ محمد ﷺ: "المرء مرآة أخيه.” فنحرص أن تكون مرآتُنا نقية، ترى الناس بصفاءٍ النيّة، ولنتعلّم أن نرى الناس بعدلٍ ورحمة، لا بعين الطبع وحده، فالمجتمع لا يُبنى بالحكم المسبق، بل بالفهم والإنصاف، وهكذا فقط نكون قد جسّدنا جوهر هذا المثل العظيم في حياتنا اليومية. 

ولعلّ ما يستوقفني في نهاية هذا المقال تلك الجملة: "فالمجتمع لا يُبنى بالحكم المسبق، بل بالفهم والإنصاف.” فكم من إنسانٍ حُكم عليه ظلمًا دون أن يُمنح فرصةً لتبرير نفسه، وكم من قلبٍ طيّب شُوّهت صورته لأن أحدهم نظر إليه بعينٍ ملوّثة بالحقد أو المصلحة، وكم من ظلمٍ وقع بسبب ألسنة صدّقت الأكاذيب، وقلوبٍ لم تعرف العدل، وعقولٍ أغلقت أبواب الفهم! نعم إنّنا بحاجةٍ إلى أن نرى الناس بعيونٍ أكثر رحمة، وبقلوبٍ أنقى من الغبار، لأنّ العدالة لا تُولد من الظنّ، بل من الإنصاف، ولأنّ المجتمعات لا تنهض بالتجريح، بل بالصدق والاحترام المتبادل.