د.م. محمّد الدّبّاس: لا فَائِزَ بالمُطلَق، مَعْرَكَةُ غَزَّةَ تَكْشِفُ الحَقِيقَةَ المُرَّةَ

نبض البلد -
أعتَبِر رَدّ حَماس المَبدَئي رَدّا (ذَكيّا) في نُقطَتَين تَتَعلّقين بوَقفِ القِتالِ وتبادُلِ الأسرَى، في حِين تَرَكَت الأمُورَ الأخرى لِقَراراتِ الشّرعِيّة الدّوليّة ومَنظومَة الدّاخِل الفِلَسطيني كَونُه شأنٌ تَحكُمُهُ الثّوابِتَ الوَطَنيّة، فمُنْذُ اندِلاعِ الحَرْبِ الأَخِيرَةِ على غَزَّةَ، وَالعالَمُ يَتَساءَلُ: مَنِ الفائِزُ في هذِهِ المَعْرَكَةِ الدامِيَةِ؟ إِسْرائيلُ الَّتِي تَمْتَلِكُ أَعْتَى التَّرْساناتِ العَسْكَرِيَّةِ، أَمْ حَماسُ الَّتِي تُواجِهُها بِإِمكاناتٍ مَحْدودَةٍ لَكِنَّها تَمْلِكُ سِلاحَ الإِرادَةِ وَالصُّمودِ؟

 إِسْرائيلُ.. قُوَّةٌ عَسْكَرِيَّةٌ في مَأزِقٍ إِسْتراتِيجِيٍّ 

إِسْرائيلُ دَخَلَتِ الحَرْبَ بِهَدَفٍ واضِحٍ: إِنْهاءُ حَماسَ وتحْريرُ الرّهائنَ وَاسْتِعادَةُ الرَّدْعِ. وَلَكِنْ بَعْدَ  حَوالي العَامَينِ مِنَ القَصْفِ وَالدَّمارِ، لَمْ تَسْتَطِعْ كَسْرَ شَوْكَةِ المُقاوَمَةِ. جَيْشُها غَرِقَ في مُسْتَنْقَعٍ غَزّة، وَتَكَبَّدَ خَسائِرَ بَشَرِيَّةً فادِحَةً، وَاقْتِصادُها يَنْزِفُ مِلياراتٍ. أَمَّا صُورَتُها الدُّوَلِيَّةُ، فَقَدْ تَلَقَّتْ ضَرْبَةً مُوجِعَةً؛ إِذْ باتَتْ تُوصَفُ بِدَوْلَةٍ مُعْزولَةٍ تُواجِهُ مَوْجَةً مِنَ الإِداناتِ غَيْرِ المَسْبُوقَةِ.

 حَماسُ.. نَصْرٌ بِالصُّمودِ 

أَمَّا حَماسُ، فَلَمْ تُحَقِّقِ انْتِصاراً عَسْكَرِيّاً تَقليديّاً، لَكِنَّها أَفْشَلَتْ أَهْدافَ العَدُوِّ. بَقِيَتْ واقِفَةً على قَدَمَيْها، تُقاتِلُ وَتُفاوِضُ مِنْ مَوْقِعِ قُوَّةٍ نِسْبِيَّةٍ، وَأَثْبَتَتْ أَنَّ الشَّعْبَ الفِلَسْطِينِيَّ، رَغْمَ الحِصارِ وَالدَّمارِ، لا يَنْكَسِرُ. صَحيحٌ أَنَّ الكُلْفَةَ الإِنْسانِيَّةَ كانَتْ باهِظَةً، لَكِنْ في ميزانِ الصِّراعِ، مُجَرَّدُ اسْتِمْرارِها وَفَرْضِها شُروطاً على طاوِلَةِ أَيِّ تَسْوِيَةٍ هُوَ انْتِصارٌ سِياسِيٌّ وَمَعْنَوِيٌّ.

 حِينَ خَسِرَتْ إِسْرائيلُ المَعْرَكَةَ وَكَسِبَتْ فِلَسْطينُ الاعْتِرافَ 

إِلى جانِبِ المَيْدانِ العَسْكَرِيِّ، كَسِبَتْ حَماسُ جَوْلَةً مُهِمَّةً في المَيْدانِ السِّياسِيِّ وَالدِّبْلُوماسِيِّ؛ إِذْ شَهِدَ العالَمُ مَوْجَةً مُتَصاعِدَةً مِنَ الدُّوَلِ الَّتِي أَعْلَنَتْ رَسْمِيّاً اعْتِرافَها بِالدَّوْلَةِ الفِلَسْطِينِيَّةِ. فَقَدْ بادَرَتْ إِسْبانْيا وَأَيْرْلَنْدا وَالنُّرْويجُ إِلى الاعْتِرافِ، ثُمَّ تَبِعَتْها دُوَلٌ كُبْرَى وَوازِنَةٌ مِثْلَ: فَرَنْسا وبريطانيا وَكنَدا وَأُسْتُراليا، كَما لَحِقَتْ بِها دُوَلٌ أُوروبِّيَّةٌ أُخْرَى بَيْنَها: البُرْتُغالُ وَبَلْجِيكَا ولوكْسِمْبورغُ وَمالْطا وَمُوناكو وَأَنْدورا وَسان مارينو. هَذا التَّحَوُّلُ العَلَنيُّ في مَواقِفِ العَواصِمِ الغَرْبِيَّةِ مَنَحَ القَضِيَّةَ الفِلَسْطِينِيَّةَ زَخْمًا غَيْرَ مَسْبُوقٍ، وَرَسَّخَ حَقيقَةً أَنَّ أَيَّ تَسْوِيَةٍ مُسْتَقْبَلِيَّةٍ لا يُمْكِنُ أَنْ تَتَجاهَلَ حَقَّ الفِلَسْطِينِيِّينَ في دَوْلَتِهِمُ المُسْتَقِلَّةَ.

 خُلاصَةُ القَولِ هو الحَقِيقَةُ المُرَّةُ، حَيثُ لا فائِزَ بالمُطْلَقٌ، فالنَّتيجَةُ الواضِحَةُ أَنَّ إِسْرائيلَ خَسِرَتْ أَكْثَرَ مِمَّا رَبِحَتْ. لَمْ تُحَقِّقْ أَمْنَها وَلَمْ تَسْتَعِدْ رَدْعَها ولن تحصل على الرّهائنَ إلا وفقاً لِهذا الإتفاق، بَيْنَما حَماسُ خَرَجَتْ مِنْ بَيْنِ الرُّكامِ لِتُثْبِتَ أَنَّها رَقْمٌ صَعْبٌ في أَيِّ مُعادَلَةٍ مُسْتَقْبَلِيَّةٍ. المَعْرَكَةُ لَمْ تَنتَهي بَعد، لَكِنَّها رَسَّخَتْ مُعادَلَةً جَديدَةً: إِسْرائيلُ قُوَّةٌ تَمْلِكُ السِّلاحَ لَكِنَّها عاجِزَةٌ عَنِ الحَسْمِ، وَحَماسُ (الفِكرَة) حَرَكَةٌ تَمْلِكُ الصُّمودَ وَالإِرادَةَ، وَهُوَ سِلاحٌ لا يُقْهَرُ.