انتهت الحرب.. وبقيت العقلية التبريرية

نبض البلد -

حاتم النعيمات

وافقت "حماس" على خطة الرئيس ترامب التي يرجّح أنها ستنهي عامين من العدوان على قطاع غزة، وقد ظهر للمرة الأولى إجماع دولي شبه كامل على ضرورة وقف هذه المقتلة التي كشفت عن تناقض العالم، وعن حقيقة مرة مفادها أن مجتمعات حقوق الإنسان نفسها أثبتت أنها تؤمن بمنظومة أخلاق نسبية وليست مطلقة، وهذا أول استخلاص أتمنى أن نعامله كالحقيقة من الآن فصاعدًا.

بكل الأحوال، فلا مفر من وضع ما حدث على طاولة النقاش "دون مجاملة"، بل مراجعته بدقة دون عواطف وانحيازات دفعتنا ثمنًا غاليًا وأوصلتنا والقضية الفلسطينية إلى موقف صعب جدًا.

الاستخلاص الثاني، ويتمثل في أن لدى الجماهير العربية انفعالية مؤذية، فقد تابعنا التفاعل مع مشهد غزة سياسيًا (الجانب الإنساني لا أحد يشكك به)، فمنذ اليوم الأول كان التحليل بالرغبات يسيطر على الفضاء العام، وأسوأ ما كان في هذه التحليلات هو الحديث بالنيابة عن شعب يتعرض لجرائم بشعة من موقع المشاهد الآمن أو المتكسّب البعيد، ناهيك عن الدفع باستمرار حرب غير المتكافئة لمجرد أن هناك "شطط فكري" يجوب غالبية العقول العربية أساسه أن فردًا أو جماعة أو حتى دولة يمكنها مواجهة المنظومة العالمية بالشحن العاطفي والشعبويات!!.

الاستخلاص الثالث ويرتبط بقيمة الإنسان في الذهنية العربية العامة، فالحديث الدائر عن انتصار "حماس" وذكائها في الموافقة على خطة ترامب يثبت أن معظم أصحاب هذا الرأي لا يهتم لسبعين ألف شهيد، ومئات الآلاف من الجرحى ودمار معظم البنية التحتية في القطاع الذي كان يعيش حالة جيدة قبل الحرب بشهادة أهله. هذه الذهنية الأنانية التي أرادت أن ترضي رغبتها بالانتقام (عن بعد بدون تكلفة بطبيعة الحال) هي التي تعتقد أن الحل دائمًا يكون عبر أفراد "مغامرين" منذ بن لادن ولغاية السنوار بغض النظر عن النتائج والعواقب، وبالعداء مع القرار المؤسسي العلمي المدروس.

القصد أن العقلية العربية تحتاج لمراجعة شاملة، لأن منطقتنا لن تحتمل كارثة أخرى من هذا النوع في المستقبل، ولأن دول المنطقة استُنزفت من قبل حركات مغامرين مُأدلجين منذ الثورة الإيرانية، فلا يمكن أن يستوعب أي عقل أن قادة عملية السابع من أكتوبر بدأوا الحرب ليطالبوا بالعودة إلى ما قبلها بعد أيام، ويفاوضون على مبادلة رهائن بأسرى اعتقلت "إسرائيل" ضعفهم بعد بداية الحرب، والمصيبة أن هؤلاء يريدون الاعتداء على المنطق بوصف سلوك حماس بالذكي وأن الحركة انتصرت، رغم أن القطاع ما زال محتلًا لغاية اللحظة، والتهجير شبح لم يزل موجودًا في المشهد الفلسطيني.

باعتقادي أننا أمام مسؤولية كبيرة تتمثل في مواجهة العقلية التبريرية بدلًا من مجاملتها، فلدينا اليوم أجيال تحتاج أن تتعلم الواقعية، لأنها ستقود المرحلة القادمة بطبيعة الحال، منعًا لإعادة إنتاج هذه العقلية والتجهيز لمغامرات جديدة.

في النهاية، أدعوك عزيزي القارئ لمتابعة ما سيحدث بعد انتهاء الحرب لحكومة نتنياهو في "إسرائيل:، وأدعوك أن تتأمل كيف سيتم سحلها سياسيًا رغم أنها -من وجهة نظر من تحكمهم- قد تخلصت من "أعداء" كحزب الله و"حماس" ونظام الأسد، ومع ذلك فإن المراجعة الشاملة ستجرف الجميع وستكون سيدة الموقف هناك، لأن العقل العام الذي يدير المشهد هناك لا يبرر بالعاطفة بل بدراسة ما حدث بموضوعية ليتجنب حدوثه في المستقبل. الفرق واضح للأسف، والقادم مهم إذا استطعنا تفنيد الأخطاء دون مجاملة.