دلو الماء والنتيجة حتمية...

نبض البلد -

ربما كان دلو ماء واحد فقط، ولكن اتضح أن الماء كان أكثر من اللبن، فضاعت دلاء اللبن مع كثرة الماء.

ولكن لو أنصفنا قليلاً لأدركنا أن لهذا الوطن مكانة مقدرة، والمواطن هنا لديه مقدرات وإمكانيات مقدرة ومحترمة، وقد حصل على قدر كبير من التعليم والحضارة والثقافة، وهو يناجز إن لم يتجاوز الكثير من مواطني الدول المتقدمة. نعم، ينقصنا الكثير، أنا أقرّ، ومن جملة ما ينقصنا هو ذلك الإنسان الذي يستشعر عِظَم المسؤولية ويدرك أن ما يقوم به من أعمال يؤثر عليه لاحقاً وعلى كل من حوله، وهذا لا يعني أن نخسر ما وصلنا إليه لنصل إلى ذلك الذي نريد.

نحن اليوم كلنا ندفع الثمن لجملة من الأخطاء المتراكمة التي كان السبب فيها عدد كبير، وجملة كبيرة من الأخطاء المتراكمة ساهمت في هروب مستثمرين وعدم استثمار آخرين، ورفعت العبء والضريبة على كاهل المواطن المسكين، ولم تُستغل الفرص المتاحة لتحسين وتطوير القطاعات القائمة، حتى وصلنا إلى قناعة بأن كل استثمار يقوم به القطاع العام مصيره الفشل ونهايته حتمية لا أمل فيها.

وسأعود وأنا أشعر بالغضب لأضع ما أظنه أوصلنا إلى هذه المرحلة، فهناك الكثير منّا أدلى بدلوه هنا وساهم بدوره حتى وصلنا إلى هذه المرحلة. فذلك الموظف الذي لا يقوم بعمله ويؤخره ويساهم في تأخير معاملات، وذلك الذي كان السبب في إغلاق هذا المشروع أو ذاك أو تأخيره أو هروب هذا المستثمر أو ذاك، وذلك الذي يعتبر الوظيفة مغنماً ولا يمارس عمله بأمانة وذمة وضمير.

العتب على كل من ساهم في إيجاد بيئة عَفِنة تكثر فيها هذه الفئة، ولذلك أصرخ دائماً بأننا لا نملك رفاهية الخيار ولا رفاهية القرار. فكل قرار يتصل بالمجتمع يجب أن يتصف بالحكمة، وكل تعامل مع قضايا المجتمع يجب أن يتصف بالحكمة، وكل فئة تستلم منصباً في المواقع العامة يجب أن تُراقب وتُحاسَب، ويجب أن يعرف العامة طبيعة المسؤولية وأعباءها، وما يترتب على هذا القرار أو ذاك لتفويت الفرصة على كل من تسوّل له نفسه العزف على الأوتار النشاز، وخلق بيئات مريضة لا تُحسن النية ولا التفكير، وتظن الظنون السيئة بكل ما حولها.

نقف اليوم مع نتيجة للأسف تبدو طبيعية لما مررنا به من أحداث سابقة. نعم، للأسف هناك جملة من المسؤولين عن هذه النتائج التي وصلنا إليها اليوم، وليس شخصاً واحداً هناك يقف في قفص الاتهام، ولكن ما يعنيني حقاً ليس هو المسؤول الرئيسي.

نعم، هناك أخطاء وهناك عوامل بشرية وهناك وهناك، ولكن عندما تكثر الانحرافات والتجاوزات تصبح البيئة خصبة لهؤلاء. ولذلك لا بد من المحاسبة والمكاشفة وقوة القانون وعدالة القضاء في التعامل مع المجتمعات. لن تستطيع أن تصلح مجتمعاً كاملاً، هذا أكيد، ولكنك تستطيع أن تضع جملة من القواعد والأطر التي تحكمه وتحدد له المسار والبوصلة، وإلا لضاعت فئة في تلك الدروب المهلكة.

فلا مصنع هناك نجح، ولا هيئات ولا وزارات كانت على قدر التحدي واستطاعت أن تحافظ على الموجود. فهذا حرر الطاقة، وثانٍ عدّل القوانين والأنظمة، وثالث زاد الضريبة، ورابع فرض الضمان على تلك الفئات التي بالكاد تقدر على أن تؤمّن قوت يومها، مع الإقرار بأن منظومة الأمان الاجتماعي مطلوبة. حتى النقابات التي كانت عوناً أصبحت عبئاً ووسيلة جباية وتعطيل، ومن يقول بعكس ذلك للأسف عليه أن يعيد حساباته جيداً. فنحن لا نريد تجميل واقع، ولكن نريد معرفة الخلل لمعالجته والوقوف على أسبابه.

ونعم، هناك شعور ينتشر يخلق عدم انتماء وولاء، وهذا الشعور سببه أن فئة عريضة من المجتمع ترى أن من يستفيد من مقدرات الوطن هي تلك الفئة فقط، تلك الفئة التي تجني الثمر، وغيرها يقوم بكل العمل. ولكن نظرة منصفة ستجعلك تدرك أن جزءاً كبيراً جداً يعود للوطن. نعم، هناك تقصير في كثير من النواحي، وهناك ضعف، وهناك محسوبية، وهناك تجاوزات، ولكن هذا لا ينفي بأي حال أن هناك الكثير من الخدمات والبنى التحتية، وهناك تعليم، وهناك صحة، وهناك دولة مؤسسات، وهناك رواتب وبنوك، وهناك الكثير من المخلصين الذين يصلون الليل بالنهار لتستمر هذه الخدمات التي للأسف لا نريد أن نشعر بها.

بل كيف نحافظ على ما وصلنا إليه ونسعى للمزيد؟ ولذلك أقول: إنه وبدون مراجعة شاملة لن نصل إلى ما نصبو إليه. وهذه المراجعة يجب أن تشمل مفهوم الوطن والمواطنة، وتشمل الحقوق والواجبات، ويعرف كل منّا أثر ذلك الفعل البسيط الذي لا يقوم به وهو على رأس عمله، وأثر الفرص الضائعة لهذا الوطن، وأثر فقد المبدعين والمستثمرين ومحاربة الموجودين بالتضييق والتشريعات والأنظمة، وعدم الاستماع لمطالبهم وشكواهم وطرق الاستمرار المطلوبة لهم.

والنتيجة الحتمية هي ما وصلنا إليه. لن يستطيع الوطن أن يتحمل كل ذلك، ستضعف قوته وقدرته على الاستمرار، وندفع نحن جميعاً الثمن.

إبراهيم أبو حويله ...