بلاسمة: العقود الخمسة المقبلة ستكون أكثر خطورة وأقل استقرارا
الأنباط – عمر الخطيب
في عالم يسير بسرعة نحو منعطفات خطرة، تُرسم خرائط القوة على موائد الكبار، بينما تُترك الشعوب على أرصفة الأزمات تتقاذفها موجات الجوع والحروب والاختلال المناخي.
التكنولوجيا اليوم بلا رحمة، والاقتصادات تُبنى على "أمن الأقوياء" لا على "عدالة الضعفاء"، فيما التحالفات العسكرية والاقتصادية تتشكل وتتفكك بوتيرة أسرع من مقطع فيديو "معطوب".
ولم تعد الطاقة محصورة في النفط والغاز، بل تحولت إلى سلاح في يد من يمتلك براءة اختراع، أو كابلاً من الألياف الضوئية، أو خوارزمية ذكاء اصطناعي، بينما تُركل الدول المتأخرة خارج الحلبة لتكتفي بدور المتفرج على مأدبة الأقوياء. والأدهى أن الكبار يتحدثون عن "الاستدامة" كما يتحدث الجزار عن حقوق الحيوان، ما يطرح تساؤلات مقلقة عن شكل العالم بعد خمسين عامًا.
بلاسمة: مزيج من الصراع والتعددية القطبية
ويرى خبير الطاقة الدكتور فراس بلاسمة أن العقود الخمسة القادمة ستشهد تحولات جذرية تتقاطع فيها السياسة والاقتصاد والتكنولوجيا والمناخ في لوحة معقدة من الصراع وإعادة تشكيل موازين القوى. ويضيف أن المشهد الدولي، الذي كان محكومًا بالعولمة الليبرالية وهيمنة القطب الواحد، يتجه تدريجيًا نحو بيئة أكثر فوضوية وتعددية في الأقطاب، حيث يسود منطق القوة والمصالح القومية على الاعتبارات الأخلاقية والإنسانية.
ويرى بلاسمة أن العالم يواجه نسخة جديدة من الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والصين، لكنها أشد تعقيدًا وأوسع نطاقًا، إذ لم تعد المنافسة اقتصادية أو تجارية فقط، بل شملت سباقًا محمومًا في التكنولوجيا المتقدمة؛ من الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية إلى السيطرة على سلاسل إنتاج أشباه الموصلات، وصولاً إلى الفضاء السيبراني. وترافق ذلك مع احتمالات مواجهات جيوسياسية في نقاط ساخنة مثل تايوان وبحر الصين الجنوبي، وظهور ترتيبات وتحالفات أمنية وتقنية مثل "كواد" و"AUKUS" ومساعي تشكيل "ناتو آسيوي".
تراجع النظام الليبرالي وصعود القوى الإقليمية
يشير بلاسمة إلى أن النظام الليبرالي الذي قادته الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية يتعرض لهزات عنيفة بفعل الشعبوية وتآكل الثقة بالمؤسسات وفشل المنظمات الدولية في حل النزاعات الكبرى. هذا الفراغ يفتح المجال أمام قوى إقليمية مثل تركيا وإيران والهند وروسيا والبرازيل، التي تسعى لترسيخ نفوذها في محيطها، ما يفاقم التوترات في الشرق الأوسط وشرق أوروبا وجنوب آسيا وأمريكا اللاتينية.
التكنولوجيا.. سلاح استراتيجي
ويؤكد بلاسمة أن التكنولوجيا لم تعد مجرد أداة للنمو، بل أصبحت سلاحًا استراتيجيًا في معركة الهيمنة. فالدول التي تمتلك مفاتيح الابتكار في الذكاء الاصطناعي، وتفك شيفرة الحوسبة الكمية، وتتحكم بالبيانات الكبرى وبالبنية التحتية للطاقة النظيفة، ستكون قادرة على صياغة معادلات القوة لعقود قادمة. وهذا التحول ينعكس مباشرة على الاقتصاد العالمي، الذي يبتعد عن فكرة السوق المفتوحة نحو ما يُعرف بـ"الأمن الاقتصادي"، حيث تُبنى سلاسل التوريد على أسس جيوسياسية، وتُعاد الصناعات إلى الداخل أو إلى "دول صديقة"، مع انقسام الأسواق إلى كتل متنافسة.
المناخ والطاقة.. جبهة جديدة للصراع
ويضيف بلاسمة أن المناخ والطاقة يضيفان طبقة أخرى من التعقيد، إذ ستؤدي التحولات المناخية الحادة إلى صراعات على المياه والأراضي الزراعية، وتفاقم موجات الهجرة، فيما يعيد الانتقال نحو الطاقة المتجددة والهيدروجين الأخضر رسم خريطة النفوذ الاقتصادي، مقلصًا من مركزية النفط والغاز. ويحذر من أن الدول المتأخرة عن اللحاق بركب الاقتصاد الأخضر ستجد نفسها معزولة عن سلاسل التمويل والتجارة العالمية.
فرص للدول النامية والعربية
ورغم هذه التحديات، يرى بلاسمة أن البيئة الدولية المقبلة تحمل فرصًا للدول النامية والعربية إذا ما امتلكت رؤية صناعية وتكنولوجية مستقلة، واستثمرت في البنية التحتية الرقمية والطاقة المستدامة ورأس المال البشري. ففي ظل التنافس بين المحاور الكبرى، يمكن لهذه الدول أن تناور وتستفيد من الفراغات التي يخلقها الصراع، شرط بناء اقتصادات مرنة قادرة على التكيف مع تقلبات الطاقة والمناخ.
ويختتم بلاسمة بالقول إن الخمسين عامًا المقبلة ستكون أكثر خطورة وأقل استقرارًا، وستتحدد ملامحها بتشابك الجغرافيا السياسية مع الهيمنة التكنولوجية والتحولات المناخية. ولن يكون المنتصر بالضرورة الأقوى عسكريًا أو الأغنى موارد، بل من يدمج القوة الاقتصادية بالتفوق التقني والقدرة على التكيف مع عالم دائم التغير، حيث تصبح الرؤية البعيدة والاستثمار في المستقبل العملة الحقيقية للقوة.