في قلب ألاسكا الباردة ستنُسج خيوط تحالفات تعيد كتابة التاريخ

نبض البلد -
في خطوة أثارت الانتباه وأشعلت التحليلات، لاختيار ألاسكا كمسرح للقاء بين الرئيس الأميركي دونالد والرئيس الروسي. هذا الاختيار، وإن بدا في ظاهره مجرد قرار بروتوكولي، فإنه يحمل أبعاداً رمزية وسياسية عميقة ترتبط بتاريخ العلاقات الروسية الأميركية، وملفات النزاعات الدولية، والتحولات المحتملة في الخريطة الجيوسياسية، بما في ذلك انعكاساته على الشرق الأوسط.

ألاسكا التي كانت جزءاً من أراضي روسيا القيصرية حتى عام 1867، وبيعت للولايات المتحدة مقابل 7.2 مليون دولار، الا انه ومنذ ذلك التاريخ والخطاب الروسي القومي يلمّح لاستعادتها لرمزيتها التاريخية، وتبقى جزءاً من الذاكرة الروسية (الأرض المفقودة).


في المقابل، تمثل الاسكا للولايات المتحدة رمزاً للتوسع والانتصار الدبلوماسي التاريخي، وفي سياق السياسة الدولية، فان اختيارها، يحمل رسائل أبعد بكثير.
فاختيار ترامب الاسكا للقاء مع بوتن، يعتبر ذكاء خارق، ويحمل رسائل رمزية تتجاوز الجغرافيا، ويشكل نموذجًا سياسيًا جديداً، ويشكل إعادة صياغة الخطاب السياسي الدولي، ولأهمية موقع الاسكا، بين القطب الشمالي وآسيا والمحيط الهادئ، مما يجعلها منصة مثالية للحديث عن إعادة توزيع النفوذ في مناطق الصراع العالمي وتوازن القوى بين الأقطاب الدولية. كما ويمكن قراءته الى أن موسكو تتخلى عن مطالبها التاريخية وتطوي صفحات خسائرها مقابل ترتيبات جيوسياسية حالية ومستقبلية في ساحات نفوذ أخرى، وتحمل رسالة تتعلق بقبول الأمر الواقع في ملف تاريخي، وربما إسقاطاه على النزاعات الحدودية مع أوكرانيا، وكمقدمة لقبول تسويات إقليمية في مناطق صراع عالمية أخرى، بما فيها الشرق الأوسط.


ان اختيار ألاسكا، بعيداً عن العواصم الاوروبية، يحمل رسالة إلى أوروبا، بأن محور التفاهمات الكبرى، يتم خارج الأطر الأوروبية التقليدية، مما قد يقلل من وزن أوروبا في القرارات المتعلقة بملف أوكرانيا، وهو الملف الجيوسياسي، الأكثر حساسية على طاولة اللقاء، ويمكن أن تؤدي التسوية إلى إعادة رسم موازين القوى في شرق أوروبا. وقد يؤدي للاعتراف الضمني بضم روسيا لمناطق أوكرانية، بما يشبه سابقة التخلي عن مطالبات ألاسكا بعد بيعها، وهذا يضع كييف أمام تحدي وجودي.


كما ان ربط الملف الاوكراني، بملفات أخرى (مثل العقوبات، الطاقة، والشرق الأوسط) لتصبح ورقة مساومة مقابل تنازلات متبادلة، منها منح كييف حيادًا أمنيًا، مقابل ضمانات روسية في ملفات عالمية أخرى.


أوروبا تنظر الى اجتماع الاسكا بعين القلق والحذر، إذ ترى فيه احتمالًا لتجاوز دورها الجيواستراتيجي، وإعادة ترتيب خريطة الأمن الأوروبي شرق القارة، يمنح روسيا نوعًا من الاعتراف الضمني بالنفوذ في مناطق كانت ضمن الفضاء السوفييتي السابق، مما يهدد أوروبا بفقدان موقعها كـمحور للقرار في القضايا العالمية.


الاتفاق قد يخفف من العقوبات الاقتصادية على روسيا، وترى أوروبا، ان تخفيف العقوبات على قد يخلق انقسامًا داخل دولها، وخاصة ان دول مثل بولندا ودول البلطيق ترى في موسكو تهديدًا وجوديًا لها. هذه الانقسامات قد تُستغل من قبل روسيا لتعميق الشرخ وتقليل فاعلية الموقف الأوروبي الموحد، مما يفتح الباب أمام تحولات استراتيجية تهدد تماسك الكتلة الأوروبية نفسها.


الصين تقرأ رسائل اللقاء، وتتابعه بدقة، وتدرك أن أي تقارب أميركي روسي قد يغيّر قواعد اللعبة في آسيا قبل أوروبا، ومن منظور بكين، ألاسكا تعتبر بوابة استراتيجية على المحيط الهادئ وقريبة جغرافيًا من الشرق الأقصى الروسي، مما يجعلها نقطة حساسة في موازين القوة البحرية والقطبية. اما جيواستراتيجيًا فالصين تتطلع الى ان يخرج الاجتماع بصفقة تُبقي الخلاف الأميركي الروسي قائمًا، مما يمنحها مجالًا أوسع للمناورة الدبلوماسية والعسكرية، للاستفادة منه لتوسيع نفوذها في المحيطين الهندي والهادئ وفي مبادرة "الحزام والطريق”.


الاجتماع قد يكون بداية لمرحلة جديدة من الترتيبات العالمية، والتفاهمات لن تتوقف عند أوكرانيا، بل ستشمل منطقة الشرق الاوسط، وملفات الطاقة، وبؤر التوتر العالمي الأخرى، والتي قد تتأثر بفكرة التسويات مقابل التنازلات التاريخية.
ان ترسخ فكرة التخلي عن المطالب التاريخية مقابل ترتيبات استراتيجية جديدة، يفتح باب امام التسويات الكبرى، وقد يُستحضر هذا النموذج في ملفات الضفة الغربية، وغزة، وسوريا وغيرها، وهنا، يصبح الخطر أن يتم تكريس الأمر الواقع على الأرض كحل نهائي على حساب قرارات الشرعية الدولية، وقد يتم دفع الفلسطينيين لقبول صفقات أو تسويات جغرافية مقابل اعترافات سياسية محدودة، أو مكاسب اقتصادية.


في سوريا، قد يتم طرح مبدأ تجميد المطالب مقابل الاعتراف بالأمر الواقع في الجولان أو مناطق النفوذ الحالية، وتثبيت السيطرة الروسية على مناطق الساحل مقابل انسحاب أو تنازلات في مناطق أخرى.


كما وقد يمتد ليصل ليبيا، والسودان، واليمن، وغيرها، مما قد يُعزز نفوذ موسكو الإقليمي، ويؤثر على موازين القوى في المنطقة، ويشكل ضغوطًا اقتصادية مرتبطة بمناطق أخرى.


ان أي تفاهم في قمة ألاسكا قد يشمل مسارات الغاز والنفط، خاصة أن ألاسكا غنية بالموارد، وروسيا لاعب رئيسي في الطاقة، وهو ما قد ينعكس على أسعار الطاقة وأمن الإمدادات نحو أوروبا وآسيا، مما سيعيد رسم معادلات الربح والخسارة لدول المنطقة.


وفي جميع الأحوال، إذا أُفضى اللقاء إلى وقف الحرب مع تنازلات من أوكرانيا فسيكون ذلك انتصاراً لبوتين. والمكاسب الروسية، لن تكون سياسية فقط، بل اقتصادية ونفوذ جيواستراتيجي أكبر، ويعزز صورة القيادة الروسية القوية والإنجاز الدبلوماسي أمام الجمهور المحلي.


اما إذا نجح ترامب في فرض شروطه، دون منح موسكو مكاسب استراتيجية، فقد يكون هو المستفيد الأكبر، وسيقدم اللقاء كإنجاز شخصي، مستغلاً صورة "الرجل الذي يتحدث مع الخصوم"، ويستعيد زخم قيادته، واستعادة دور الوسيط الكبير، مما يُعيد للولايات المتحدة دورها كمنظم تسويات إقليمية.


الا ان المراقبين يشيرون إلى أن المخاطر السياسية على ترامب، قد تكمن في اتهامه بالتساهل مع روسيا أو تقديم تنازلات استراتيجية، مما يزعج النخبة السياسية والأمنية الأميركية، ويهمش أوكرانيا دون ضمانات، وقد يدفع الشركاء الأوروبيين للبحث عن آليات أوروبية مستقلة للتعامل مع موسكو.


كما من الممكن ان ينتج عن اللقاء، منفعة متبادلة لكن غير متكافئة، مما سيؤدي الى بروز محاور جديدة متغيرة لبلورة مواقف جديدة، قد تكون للتعاون أو للمراوغة، وفق ما تستشعر من تغير في موازين القوى.


انه لمن الواضح ان أصداء اجتماع الاسكا ستمتد للشرق الأوسط، الذي لطالما كان ساحة اختبار للتفاهمات والصراعات بين القوى العظمى، وقد يؤدي الى إعادة توزيع أدوار النفوذ في ملفات إقليمية شائكة، ونقطة تحول في كيفية إدارة الصراع، وإعادة صياغة التحالفات القائمة. وفي قلب هذه المعادلة، يقف الأردن كدولة محورية تتأثر مباشرة بتغير موازين القوى، في ظل ارتباطه الوثيق بالملف السوري والقضية الفلسطينية والقدس، وأمن الطاقة الإقليمي.


ان نتائج اللقاء مهما كانت سيكون لها تداعيات على الأردن، مثل خطر سابقة التنازلات، إذا تم تكريس فكرة أن التنازل عن الأراضي كخيار استراتيجي مقبول، فقد يضغط هذا على الأردن في أي مفاوضات مستقبلية بشأن الضفة أو الحدود، وبالتالي على الأردن الاستعداد للتغيرات الحدودية والإقليمية، والضغوط السياسية لقرارات قد تضر بالحقوق أو الأمن الأردني. وهذا يتطلب تعزيز موقف الاردن القانوني والدبلوماسي في أي قضايا حدودية أو سيادية، حتى لا يجد نفسه أمام واقع مفروض، كما قد يعزز من فرصة للأردن للعب دور الوسيط المحايد بشكل اقوى في صياغة تسويات وسطية، تحافظ على الاستقرار الإقليمي، وهذا يتطلب تقوية قنوات التنسيق مع شركاءه لمنع تهميش مصالحه، وخاصة في حال توسيع النفوذ الروسي وبعض حلفاءه في سوريا، وبلا ضمانات أمنية، فانه قد يعرض الأردن لمخاطر ميدانية وسياسية.


ان المتغيرات الجيوسياسية في إعادة رسم خرائط النفوذ، يُحتم على الأردن، تبني استراتيجية شاملة لا تتبنّى الانتظار، بل تطبيق الدبلوماسية الاستباقية، وتكثيف تحريك ملف القدس والحقوق الفلسطينية لضمان عدم استغلال أي صفقة دولية على حساب القضية الفلسطينية، وتحصين حدوده، واستخدام ملف اللاجئين وإدارة عملية العودة المحتملة، وصياغة برامج إنمائية أمنية لإعادة توطين مرحلي مع ضمانات دولية وتمويل مشروط بالحماية، والتحصين الوطني، وتطوير القدرات الاقتصادية والأمنية لمواجهة أي ارتدادات محتملة من إعادة توزيع النفوذ الإقليمي.


في جميع الأحوال فان الرسائل من لقاء الاسكا ستكون واضحة في رمزية التنازل، والنموذج القابل للتعميم، ونموذج الصفقات الكبرى التي تتجاوز الساحات المحلية.

* مركز عبر المتوسط للدراسات الاستراتيجية