هل تتفوق العملات الرقمية على أدوات التحوّط التقليدية؟

نبض البلد -

الساحة المالية العالمية تستعد لانطلاقة ثورة جديدة في قطاع تكنولوجيا المال

عايش: العملات المُشفرة أصبحت تُماثل النفط والذهب والسلع الأساسية العالمية

الحموري: تفوق العملات المشفرة على الدولار أمر بعيد المنال ويتخلله تعقيدات

الوزني: تنظيم الأصول الرقمية في معظم الدول العربية لا يزال في المراحل الأولى

الأنباط – مي الكردي

في خطوة تُنذر بتحول استراتيجي في النظام المالي العالمي، بدأت الولايات المتحدة تتجه بشكل واضح نحو دعم العملات الرقمية، سواء من خلال تشريعات تنظيمية أو استثمارات مؤسسية متزايدة.

وهذا التحول، الذي يأتي وسط تسارع عالمي في تبني الأصول الرقمية، يعكس إدراك واشنطن لأهمية مواكبة الابتكار التكنولوجي في القطاع المالي، ومواجهة النفوذ المتصاعد لعملات مشفرة تقودها كيانات خاصة أو دول منافسة.

وبموجب قانون GENIUS الذي وقّعه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، والذي يُشرّع التعامل بالعملات المستقرة المدعومة بالدولار الأميركي وإصدارها، تستعد الساحة المالية العالمية لانطلاقة ثورة جديدة في قطاع تكنولوجيا المال، تتّجه نحو آفاق الاقتصاد الرقمي.

ولا يقتصر القانون على بعده التشريعي، بل يتعداه إلى بُعد استراتيجي يسعى إلى ترسيخ الهيمنة الأميركية عبر الدولار الرقمي ضمن سوق العملات المشفّرة.

وفي وقت سابق، أعلن مستشار البيت الأبيض لشؤون العملات المشفرة ديفيد ساكس عن انطلاق "أسبوع الكريبتو" في مجلس النواب الأميركي بتاريخ 14 تموز، لمناقشة ثلاثة مشاريع قوانين تتعلق بالأصول الرقمية، من بينها قانونGENIUS، الذي نال تأييدًا واسعًا في مجلس الشيوخ بواقع 68 صوتًا مقابل 30، قبل أن يُقرّه مجلس النواب بأغلبية 308 أصوات مقابل 122.

وخلال ذلك الأسبوع، شهدت سوق العملات المشفرة قفزة تاريخية، إذ سجّلت عملة بتكوين، كبرى العملات الرقمية، مستوى غير مسبوق بلغ 123,200 دولار، رافعةً القيمة السوقية الإجمالية للعملات المشفرة إلى 2.43 تريليون دولار، قبل أن تتراجع إلى 2.35 تريليون عقب فشل المحاولة الأولى لتمرير القانون، ما تسبب بهبوط البتكوين بنسبة 3% إلى مستوى 118,000 دولار.

ومع عودة ترامب إلى البيت الأبيض في كانون الثاني الماضي، حظيت العملات المشفرة بزخم سياسي غير مسبوق، حيث ارتفعت بتكوين بنسبة 26% منذ بداية العام، متفوقةً على أسهم شركات التكنولوجيا الكبرى مثل إنفيديا وآبل. وأكّد ترامب خلال المؤتمر الصحفي الذي وقّع فيه القانون أن "العملات المشفرة سجلت ارتفاعات تفوق أي سهم".

في ظل هذه التطورات، تُطرح تساؤلات جادة حول إمكانية تفوّق العملات الرقمية على أدوات التحوّط التقليدية، وفي مقدمتها الدولار الأميركي، خصوصًا في ضوء تصاعد فوضى الرسوم الجمركية واستخدامها كأداة ضغط سياسي واقتصادي. إذ باتت المؤشرات السعرية للعملات الرقمية تشهد زخمًا كبيرًا بعد كل هبوط، يُمهّد لارتفاعات جديدة، ما أعاد بناء الثقة الاستثمارية بالأصول الرقمية، حتى بات الشعار المتداول بين المستثمرين هو: "دعوها تنخفض لترتفع".

تنظيم العملات المشفرة ضرورة أمريكية للحفاظ

في السياق، أشار الدكتور والمستشار صالح الحموري من كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية، إلى أن تفوق العملات المشفرة على الدولار الأميركي كأداة تحوّط عالمية لا يزال أمرًا بعيد المدى ومعقدًا، رغم ما يُطرح أحيانًا من تصورات حول قدرتها على أن تكون بدائل مستقبلية للاحتياطيات النقدية التقليدية، نظرًا لما تتميز به من ندرة رقمية، ولا مركزية، وتحرر من السياسات النقدية التقليدية.

وعزا الحموري هذا التحدي إلى أن الولايات المتحدة ما تزال تمتلك أقوى اقتصاد في العالم، وعمقًا ماليًا يرسّخ هيمنة الدولار على النظام المصرفي والتجاري الدولي، وهو ما يمنح العملة الأميركية قوة لا يمكن تعويضها بسهولة، لا سيما في أوقات الأزمات. ورغم ذلك، لم يستبعد الحموري أن تلعب العملات المشفّرة دورًا تكميليًا ضمن النظام المالي العالمي، خصوصًا في الدول التي تواجه تضخمًا مفرطًا وأزمات مالية حادة، إذ يُنظر إلى "بتكوين" مثلًا كملاذ رقمي للتحوّط من التقلبات، لا كبديل شامل للدولار.

ورداً على سؤال لـ"الأنباط" حول تأثير التشريعات الأميركية الجديدة الخاصة بالعملات المشفّرة والمستقرة على الاقتصاد، خاصة في ظل التوترات التجارية المتعلقة بالرسوم الجمركية، قال الحموري إن هذه التشريعات تنطوي على تأثير مزدوج، يتراوح بين إيجابيات مهمة وتحديات قائمة.

وأوضح أن أبرز الإيجابيات تتمثل في تعزيز الثقة والاستثمار من خلال تنظيم هذا القطاع، ما من شأنه أن يفتح الباب أمام تدفّق رؤوس الأموال المؤسساتية ويمنح السوق شرعية أكبر. ولفت إلى أن هذا التنظيم كان من بين الأسباب التي دفعت عملة "بتكوين" لتحقيق مستويات قياسية وصلت إلى 123,200 دولار. كما أضاف أن البيئة التشريعية الحاضنة ستمنح الشركات الناشئة في مجالات "البلوك تشين" والعملات الرقمية فرصة أفضل للنمو، مع تقليل مخاطر الاحتيال وغسيل الأموال.

أما على صعيد التحديات، فقد حذّر الحموري من أن بطء التنفيذ أو الإفراط في التنظيم قد يدفع بالابتكار إلى الانتقال نحو دول أكثر مرونة في تعاملها مع هذا القطاع. كما لفت إلى احتمالية تصادم السياسات الجديدة مع مصالح النظام المصرفي التقليدي، ما لم تتم مراعاة توازن المصالح بين المؤسسات المالية التقليدية والتكنولوجيا المالية الناشئة.

وأشار إلى أن اعتماد الولايات المتحدة لنظام صارم مقابل دول أخرى تتبنى نهجًا أكثر تحررًا قد يؤدي إلى اتساع فجوة التوترات مع شركائها التجاريين، خصوصًا في ظل عالم يشهد تزايدًا في استخدام الرسوم الجمركية كأداة سياسية واقتصادية.

واختتم الحموري حديثه بالتحذير من أن العملات المشفّرة، إذا ما انتشرت دون تنظيم واضح، قد تُشكل بديلًا ماليًا عالميًا لا يخضع لسيادة دولة بعينها، معتبرًا أن اتجاه واشنطن نحو تنظيم هذا القطاع ليس خيارًا بل "ضرورة استراتيجية" لضمان استمرار هيمنتها على النظام المالي العالمي.

واشنطن تسعى لجعل العملات المشفرة جزءًا من نظامها المالي

من جانبه، يرى الخبير الاقتصادي حسام عايش أن القوانين الأميركية الجديدة الخاصة بالعملات المشفّرة تهدف إلى تحويل العلاقة مع هذه الأصول الرقمية من حالة الفوضى والضبابية إلى علاقة قانونية ومنظمة، بما يجعل استخدامها أكثر انتظامًا وشرعية، ويعزز من قدرة الولايات المتحدة على فرض سيادتها عليها.

وأشار عايش، في حديثه لـ"الأنباط"، إلى أن هذه الخطوات تأتي استجابة لتعهدات الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الذي سبق وأن أعلن عن رغبته بجعل واشنطن "عاصمة للعملات المشفّرة"، مشيرًا إلى أن تنظيم هذا القطاع بات يمثل أولوية استراتيجية في السياسة المالية الأميركية.

وأوضح أن صدور هذه القوانين تزامن مع صعود عملة "بتكوين" إلى مستويات تاريخية بلغت 123 ألف دولار، في وقت تعمل فيه السلطات الأميركية على إعادة ترخيص عمل العملات المشفّرة، وإنشاء احتياطي خاص بها، ما يجعل الولايات المتحدة أكثر هيمنة في إدارة هذا السوق، ويمنحها حضورًا رقميًا عالميًا يوازي نفوذها المالي التقليدي عبر الدولار.

وبيّن عايش أن الغاية النهائية من هذه الخطوات هي دمج العملات المشفّرة ضمن المنظومة المالية الأميركية الرقمية، بما يتيح لها التحكم بالعملات الرقمية والنقدية حول العالم عبر ما يُعرف بـ"النظام المالي الأميركي"، الذي يرسّخ هيمنة الدولار.

وفي السياق ذاته، اعتبر عايش أن القانون المتعلق بـ"العملات المستقرة" سيكون خطوة تمهيدية تدعم التعامل بالدولار الرقمي في المراحل المقبلة، مشيرًا إلى أن العملات المشفّرة، بمختلف أنواعها، تُسعّر بالدولار الأميركي، وهو ما يمنح واشنطن مزيدًا من السيطرة على هذا القطاع المتنامي.

وأضاف أن العملات المشفرة باتت اليوم تُعامل كأصول استراتيجية شبيهة بالنفط والذهب والقمح وسائر السلع الأساسية العالمية، وهو ما سيزيد من حضور الدولار الرقمي في الأسواق المالية والتجارية الدولية.

ونقل عن مؤيدي هذا التوجه، ومن بينهم الرئيس ترمب ووزير الخزانة سكوت بيسنت، تأكيدهم على أن العملات المستقرة المرتبطة بالدولار يمكن أن تُسهم في زيادة الطلب العالمي على الدولار وسندات الخزانة الأميركية.

وفي سياق متصل، أشار عايش إلى أن تسجيل الدولار أسوأ أداء نصف سنوي له لا يعني تراجع مكانته العالمية، لافتًا إلى أن الدولار لا يزال يحتفظ بموقعه كأهم عملة احتياطية في العالم، حيث يُستخدم في 85% من التعاملات التجارية الدولية، وتشكل الديون المقومة به أكثر من 60% من إجمالي الديون العالمية، ما يجعله ملاذًا آمنًا لا يزال صامدًا رغم التحديات.

وفي ختام حديثه، أبدى عايش أسفه من بطء تحرك المنطقة العربية في مواكبة هذه التحولات الجذرية في النظام المالي الرقمي، معتبرًا أن الدول العربية تقف اليوم بين خيارين: أن تصبح فاعلاً رئيسيًا ومبادرًا في هذا التحول، أو أن تبقى مستهلكًا ثانويًا على هامش منظومة مالية جديدة تعاد صياغتها عالميًا.

تشريعات الأصول الرقمية في العالم العربي

من جهته، قال أستاذ الاقتصاد والسياسات العامة في جامعة محمد بن راشد، الدكتور خالد الوزني، إن البيئة القانونية لتنظيم الأصول الرقمية في معظم الدول العربية لا تزال في مراحلها الأولى، خاصة فيما يتعلق بالتعامل مع العملات المشفّرة والمستقرة، مشيرًا إلى أن بعض الدول الخليجية، وفي مقدمتها الإمارات والسعودية، قطعت شوطًا متقدمًا في هذا المجال عبر إنشاء أطر تنظيمية وهيئات متخصصة، مثل هيئة تنظيم الأصول الافتراضية(VARA) في دبي.

ولفت الوزني، في حديثه لـ"الأنباط"، إلى أن دولًا عربية أخرى لا تزال تتعامل مع هذا التحوّل المالي الرقمي بحذر شديد، أو عبر حظر جزئي أو كلي، ما أدى إلى خلق بيئة قانونية غير متجانسة على مستوى العالم العربي، تُضعف من فرص جذب الاستثمارات، وتؤثر سلبًا على الابتكار وثقة المستثمرين في قطاع الأصول الرقمية.

ودعا الوزني إلى ضرورة إنشاء هيئات تنظيمية مستقلة أو لجان وطنية مختصة تُعنى بتطوير وتنفيذ سياسات للأصول الرقمية، بالتوازي مع تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص لتطوير البنية التحتية الرقمية ورفع كفاءة الأمن السيبراني. كما شدد على أهمية وضع أطر قانونية دقيقة تميّز بوضوح بين العملات المشفّرة والعملات المستقرة، بما يضمن توجيه التشريعات نحو تنظيم فاعل لا نحو كبح الابتكار.

ورأى الوزني أن الانفتاح المالي الرقمي في الدول العربية لا يزال يواجه العديد من التحديات البنيوية، إذ تتسم البنية التشريعية والتنظيمية بالضعف، ويُضاف إلى ذلك التفاوت في درجة التقبل المؤسسي والمجتمعي لهذا القطاع، مع نقص واضح في الكفاءات البشرية المتخصصة في مجالات مثل "البلوكتشين" والتكنولوجيا المالية وإدارة المخاطر الرقمية.

وأشار إلى وجود مخاوف مشروعة من أن يؤدي غياب التنسيق مع البنوك المركزية إلى تهديد استقرار النظام النقدي التقليدي، مؤكدًا ضرورة دمج هذه المؤسسات في أي عملية تنظيم مستقبلية لضمان التوازن بين التطوير والرقابة.

وفي ختام حديثه، أكد الوزني أن الفرصة لا تزال قائمة أمام الدول العربية لتأطير مستقبل الأصول الرقمية بشكل استباقي وفعّال، مضيفًا أن السياسات المتوازنة والمدروسة يمكن أن تضع المنطقة في موقع ريادي عالمي ضمن مشهد الثورة المالية الرقمية، بدل أن تبقى مجرد مستهلك للتقنيات القادمة من الخارج.