السويداء كمعبر "لمشروع داوود"

نبض البلد -
السويداء كمعبر "لمشروع داوود"
المحامية هبة أبو وردة
السويداء ليست حديثة العهد بالغضب، فقد اعتادت على التمرد النبيل والرفض الصلب، وسجّل تاريخها محطات متتالية من الكرامة والاحتجاج، لكنها اليوم تعود ثانية إلى الاقتراب الخطر من شفا الهاوية الطائفية؛ ففي حرب تشرين عام 1973، حين اشتدّ الصراع على الجولان، انقسمت المواقف، جزء من الدروز تمسّك آنذاك بوحدة الدم العربي، ورفض أن تكون طائفته جسرًا للتقسيم، بينما التحق آخرون بالكيان المحتل، وذابوا في جيشه الذي يضم خليطًا من الطوائف والأعراق ممن لا دين لهم ولا عروبة.
ما بين الدروز السوريين الذين قاوموا مشاريع التفكيك، والدروز المجندين في جيش الاحتلال، الكيان وظّف الطائفة لتبرير تدخله باسم النجدة، وسهّل عبوره عبر بوابة التفتيت الطائفي، محوّل سوريا إلى كانتونات مذهبية متناثرة، مستغلا وجود طائفة درزية ضمن نسيجه السكاني والعسكري كأداة ذكية للتسلل إلى الجغرافيا السورية، ولعب على وتر القرب الدموي والمظلومية المشتركة، وزجّ بجنوده الدروز إلى تخوم الجولان والجنوب، مقدمًا جيشه في صورة المنقذ، في مسرحية مشهدها تضامن وجوهرها اختراق.
عين القارئ السياسي تدرك أن الكيان حول دروزه إلى جسور بشرية لعبور الحدود، لتحقيق غاية استراتيجية أكبر، وهي مشروع "ممر داوود"، الحلم القديم الجديد بربط الكيان من البحر إلى الفرات، عبر ممر بري أمني يخترق الجنوب السوري ويفكك العمق العربي من حوله؛ حيث أنه يدرك أن التقسيم الطائفي هو المفتاح الأخطر الأسهل، والذي يقدم الفرص الذهبية لإنشاء مناطق عازلة أو جيوب أمنية بغطاء "حماية الأقليات"، تمامًا كما فعل في جنوب لبنان في ثمانينات القرن الماضي.
في هذا السياق، صرّح رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو أن الجيش أُوكل له تأمين الحدود وحماية الدروز، محذرًا المواطنين الإسرائيليين، وخاصة الدروز من العبور عبر السياج الحدودي، لكن هذا التحذير لا يخلو من ازدواجية؛ فبينما تدين إسرائيل العبور رسميًا، فإنها تسمح به ضمنيًا كجزء من "استراتيجية رمزية" لتبرير الضربات الجوية في سوريا، وتعزيز سردية "الواجب الأخلاقي" تجاه الدروز في الداخل والخارج.
في قلب هذه الخطة، تتموضع فرقة هبشان 210، وهي ليست مجرد وحدة حراسة حدود، بل الذراع العملياتي الاستراتيجي لإسرائيل على الجولان، تعمل هذه الفرقة على ضبط الحدود، منع التمدد الإيراني، وتنفيذ عمليات خاصة داخل الأراضي السورية، متحوّلة من وحدة تقليدية إلى ذراع انخراط استراتيجي، مرتدية "كمامة” تخفي بها أنيابها ليشق بها طريقه نحو الرؤية الجيوسياسية الكبرى، التي تربط بين روايته التوراتية للمناطق التاريخية، من شواطئ فلسطين، مرورا بجنوب لبنان، إلى الجولان وجبل العرب، ثم شرق الفرات، لتأمين شريط متصل خالٍ من أي قوة عربية موحدة، ويتيح له التوسع دون الحاجة إلى حروب مباشرة.
اليوم فرقة هبشان 210 ذراع العبور نحو الداخل، حيث تنتشر الفرقة حاليًا في المنطقة العازلة على طول الحدود، وقد تلقت تعزيزات هجومية ودفاعية لردع التهديدات القادمة من سوريا ولبنان، كما أصبحت لها تحركات مقنّعة داخل المنطقة العازلة، في مؤشر على تصاعد انخراط الجيش الإسرائيلي، وتحوّل الوجود من وقتي إلى دائم، مع تشكيل وحدات متعددة لتأمين محيط جبل الشيخ وطويق الدفاع الشمالي، وبمعنى أوضح ليست السويداء وحدها المستهدفة، إنما الفكرة التي ما زالت تجمع بين العربي والعروبة، بين الجغرافيا والسيادة، وفي كل صمت عن هذا التسلل، حفرة تُحفَر تحت آخر ما تبقّى من الخريطة العربية.
ما يجري على تخوم السويداء ليس نزاعًا حدوديًا عابرًا، ولا نجدة طائفة محاصرة، إنما ارتسام أوليّ لخريطة النار التي تشتهيها إسرائيل منذ زمن، خريطة تُرسَم بجراح الطوائف، وانهيار الجغرافيا من داخلها؛ فالكيان الذي عجز عن اقتحام العمق العربي بالحرب، بات يجيد الدخول إليه عبر شقوق الانقسام، يلبس قناع الحامي، ويزرع رايات النجدة فوق أسلاك التشرذم، وفيما يرفع البعض شعار "الحماية”، ترفع إسرائيل حدودها خطوةً خطوة، تحت عباءة "الواجب"، وعلى جسر من أبناء الطائفة، تسير بهدوء نحو الفرات.